وقال الله تعالى: هي خمس، وهي خمسون، أي: بالمضاعفة، فجزى الله عنا محمدًا صلى الله عليه وسلم خيرًا، وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيرًا.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا حصين ابن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: « عرضت علي الأمم، ورأيت سوادًا كثيرًا سد الأفق، فقيل: هذا موسى في قومه ». هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا مختصرًا.
وقد رواه الإمام أحمد مطولًا فقال: حدثنا شريح، حدثنا هشام، حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عن سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا.
ثم قلت: إني لم أكن في صلاة، ولكن لدغت.
قال: وكيف فعلت؟
قلت: استرقيت.
قال: وما حملك على ذلك؟
قال: قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي، أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة.
فقال سعيد يعني - ابن جبير -: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
« عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي معه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم.
فقلت: هذه أمتي.
فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم.
ثم قيل: انظر إلى هذا الجانب فإذا سواد عظيم.
فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك.
فقالوا: من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟
فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئًا قط، وذكروا أشياء.
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟
فأخبروه بمقالتهم.
فقال: هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
فقام عكاشة بن محيصن الأسدي فقال: أنا منهم يا رسول الله؟
قال: أنت منهم.
ثم قام آخر فقال: أنا منهم يا رسول الله؟
فقال: سبقك بها عكاشة ».
وهذا الحديث له طرق كثيرة جدًا، وهو في الصحاح، والحسان، وغيرها، وسنوردها إن شاء الله تعالى في باب صفة الجنة، عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها.
وقد ذكر الله تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيرًا، وأثنى عليه، وأورد قصته في كتابه العزيز مرارًا، وكررها كثيرًا، مطولة ومبسوطة ومختصرة، وأثنى عليه بليغًا وكثيرًا، ما يقرنه الله ويذكره، ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابه كما قال في سورة البقرة:
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101] .
وقال تعالى: { الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [آل عمران: 1-4] .
وقال تعالى في سورة الأنعام: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [الأنعام: 91-92] .
فأثنى تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحًا عظيمًا، وقال تعالى في آخرها: { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأنعام: 154-155] .
وقال تعالى في سورة المائدة: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] إلى أن قال: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ... } الآية [47-48] .
فجعل القرآن حاكمًا على سائر الكتب غيره، وجعله مصدقًا لها، ومبينًا ما وقع فيها من التحريف والتبديل، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب، فلم يقدروا على حفظها، ولا على ضبطها وصونها، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم، لسوء فهومهم، وقصورهم في علومهم، وردائة قصودهم، وخيانتهم لمعبودهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله ما لا يحد ولا يوصف، وما لا يوجد مثله، ولا يعرف.
وقال تعالى في سورة الأنبياء: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [الأنبياء: 48-50] .
وقال الله تعالى في سورة القصص: { فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [48-49] .
فأثنى الله على الكتابين، وعلى الرسولين عليهما السلام، وقالت الجن لقومهم: إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى.
وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من الأول الوحي، وتلا عليه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1-5] .
قال: سبوح سبوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران.
وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة، وأمته كانت أمة كثيرة، ووجد فيها أنبياء، وعلماء، وعباد، وزهاد، وألباء، وملوك، وأمراء، وسادات، وكبراء، لكنهم كانوا فبادوا، وتبدلوا كما بدلت شريعتهم، ومسخوا قردة وخنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، وجرت عليهم خطوب وأمور، يطول ذكرها، ولكن سنورد ما فيه مقنع، لمن أراد أن يبلغه خبرها، إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان.