فهذا الصوت هو صوت الشاعر نفسه وهو يعبر عن وجهة نظره في أن حكاية ليلى والمجنون خالدة، -وأن ماخلدها هو شعر هذا الشاعر الأموي الكبير، وهذا يعني أن ذاتية المؤلف العارمة لاتزال في بنية هذا العمل المسرحي ولم تخرج منه خروجاً كلياً أو أن آثارها مازالت واضحة فيه. هذا إضافة إلى القصائد الغنائية والمقطعات التي انتابت معظم الفصول وخاصة الأخير منها، فكانت سداً منيعاً أمام تدفق حركة الحدث ونموه، وسيأتي الحديث عن ذلك في الحوار.
أما وضع الصراع في هذا العمل فهو ممتلئ بالعيوب التي شُلَّت حركته، فأساس الصراع هو بين حب قيس وليلى من جهة وبين التقاليد القبلية المتوارثة من جهة، والحب عاطفة داخلية وإحساس آسر، أما التقاليد والأخلاق فهي خارجية، ولذلك فإن التعارض بينهما قد يولد في العمل المسرحي صراعاً نفسياً داخلياً عنيفاً يغني العمل ويثريه، ويذكر المؤلف على لسان ليلى ماكان بين قيس وليلى من حبّ وما جرى من صراع:
يعلمُ اللهُ وحدهُ مالقيس
من هوى في جوانحي مُستكنِّ
إنني في الهوى وقيساً سواءٌ
دنُّ قيسٍ من الصبابةِ دنّي
أنا بينَ اثنتين كلتاهما النار ُفلا تْلحَني ولكن أعنّي
بينَ حرصي على قداسةِ عرضي
واحتفاظي بمن أحبُّ وضنّي
صنتُ منذ الحداثة الحبَ جَهْدي
وهو مُسْتَهْترُ الهوى لمْ ْ يَصُنّيَ
قد تَغَنّى بليلةِ الغَيْلِ ، ماذا
كان بالغَيْلِ بين قَيْسٍ وبيني
كلُّ ما بينَنا سلامٌ وردٌّ
بينَ عينٍ من الرّفاق وأذنِ
وتبسَّمْتُ في الطّريق إليهِ
ومضى شأنَه وسِرْتُ لشأني"14"
وثمة فرص لتأجيج الصراع الداخلي، ولكن الشاعر لم يستطع أن يستغل فرصة واحدة، وأهمها ما جاء في الفصل الثالث إذا حضر ابن عوف أمير الصدقات في الحجاز وعامل من عمال بني أمية ليخطب ليلى من أبيها إلى قيس، فيخيرها أبوها الأمر، ولكنها سرعان ماترفض قيساً وتفضّل عليه رجلاً آخر لاتعرفه جاء من بني ثقيف يخطبها، حتى إنها هي التي تطلب من أبيها أن يستقدم ورداً وأن يرسل في الحال إلى قاضي نجد ليتم الزواج في هذا اليوم، وكأنها على عجلة من أمرها، مع أن الحوار يظهر تعلقها بقيس، ولكنها في الوقت نفسه متمسكة بالتقاليد المعهودة، ويظهر هذا الحب ضعيفاً باهتاً إزاء هذه التقاليد، كما تظهر ليلى حكيمة، عقلها أكبر من قلبها، ولا يشفع لها ندمها بعد أن قضي الأمر، ولننظر كيف تجري الأمور سريعة بلا صراع داخلي، وكأن الحب أمر هامشي عابر:
ليلى: أقيساً تريدُ؟
ابن عوف: نعم!
ليلى: إنه
منى القلبِ أو منتهى شغلهِ
ولكن أترضى حجابي يزال
وتمشي الظنون على سدْلِهِ
ويمشي أبي فَيغُضُّ الجبينَ
وينظرُ في الأرضِ من ذُلهِ
يداري لأجلي فضولَ ا لشيوخِ
ويقتلُني الغمُّ ومن أجلهِ
يميناً لقيت الأمرين من
حماقة قيس ومن جهله
فضّحتُ به في شعابِ الحجازِ
وفي حزنِ نجدٍ وفي سهلهِ
فخذ قيس ياسيدي في حماكَ
(في حياء وإباء)
وألقِ الأمانِ على رحلهِ
ولايفتكرْ ساعةً بالزواجِ
ولو كان مروانُ من رُسْلِهِ
ابن عوف:
إذن لن تقبلي قيساً
ولن ترضي به بعلاً
إذن أخفق مسعاي
وخاب القصدُ ياليلى
ليلى:
على أنك مشكورٌ
ولاأنسى لك الفّضْلا
وأوصيك بقيسِ الخير
لازلت لهُ أهلا
لقد يعوزه حامٍٍ
فكنه أيها المولى
(تلتفت إلى أبيها وكأنما تحاول أن تحبس في عينها دموعاً)
أبي كان وردّ ها هنا منذُ ساعةٍ
ففيمَ أتى؟ مايبتغي؟
المهدي: جاء يخطبُ
ابن عوف:
ومن وردُ ياليلى وهل تعرفينه؟
ليلى: فتىَ من ثَقْيِفٍ خالص القلب طَيِّبُ
أتى خاطباً بعد افتضاحي بغيره
وعاري، أهذا يابن عوفٍ يُخيَّبُ؟
ابي، أين وردُ الآن؟
المهدي
عند قرابةٍ
من الحي ضمّوه إليهم ورَحّبوا
فإن شئتِ أرسلنا إليهِ
ليلى:
ابعث ادعهُ
وجئنا بقاضي نجدٍ اليومَ يكتُبُ"15"
إنّ هذا الاتجاه الأخلاقي العنيف أخفى وطمس النوازع الانسانية فمحاها، وصارت الشخصيات متشابهة أو غير متكافئة، فليلى ووالدها المهدي وورد الثقفي من طينة واحدة، ولكن قيسا من طينة أخرى، فهو قد انقاد لنوازعه فكان ضحية لها في مجتمع يقف مانعاً ازاء تحقيقها، ان التشابه بين الشخصيات جعل قيسا غريبا عن بيئته، وهذا ماجنى على هذه المسرحية الشعرية، فخنق الصراع المسرحي النفسي في مهده وبسهولة بالغة، فلم يلتفت الشاعر الى تصوير المشقات التي تعانيها شخصياته، فالحدث وروايته هو الأهم عند شوقي، ولم يعمق حركة المسرحية الداخلية ونموها، ويعيد الدكتور محمد مندور اخفاق شوقي في هذا الجانب من مسرحياته الشعرية كلها الى سببين
أولهما أن شوقي قد أجرى الصراع بين العوامل النفسية والعوامل الأخلاقية، وقد لايكون هذا الاختيار في مبدئه سببا لضعف تأثير مسرحياته، فقد اعتمد كورني من قبله على نفس الصراع بين المشاعر والاخلاق وعلى الأخص بين الحب والواجب، ومع ذلك بلغ من التأثير والقوة مبلغا رائعا في "السيد" و"هوراس" و"سينا" وغيرها من مآسيه. ولكن كورني لم يسلك مسلك شوقي في تخير المبادئ الأخلاقية التي يدخلها في صراع مع العواطف البشرية، فالاخلاق التي يستند اليها كورني ترجع في جوهرها إلى ما يسميه علماء الأخلاق أدب الرياضة والاستصلاح أي أدب رياضة النفس على الخير والحق والجمال واستصلاحها على أساس قيادة الضمير والاستماع لصوته الالهي. وأما شوقي فان مبادىء الأخلاق عنده تستند الى مايسمى ب(أدب المواضعة والاصطلاح)، أي ماتواضع عليه المجتمع من عادات وتقاليد لاتغوص جذورها في الضمير الفردي، ولاتلقى جزاءها من وخزات ذلك الضمير، بل تستند الى رأي الجماعة في الفرد وحكمهم عليه. وجزاؤها يصدر عن رأي الجماعة أو القبيلة ومدى سيطرته على الفرد. وبذلك لم تصبح مبادىء الأخلاق عنده شيئا مستقرا في أعماق النفس البشرية، حيث تستقر أيضا المشاعر والعواطف والشهوات، بحيث يمكن أن يجري الصراع العنيف الذي يمزق النفس البشرية، ويثير تفكير ومشاعر القارىء أو المشاهد حتى تلهث أنفاسه ويرتفع انفعاله ، وهذا واضح في مأساة المجنون مثلاً ، حيث لايجري الصراع في نفس ليلى بين الحب والواجب بل بين الحب وتقاليد العرب، فهي لاترفض الزواج من قيس لأن ضميرها يأبى هذا الزواج، بل لأن العرب تستنكر زواج الفتاة بمن شبب بها وفضح حبه لها........
والسبب الثاني هو أن شوقي لم يعمّق حتى ذلك الصراع الذى أجراه بين المشاعر الانسانية والأخلاق الاجتماعية. ولذلك لانجد في مسرحياته صراعاً حقاً عنيفاً بل انتصارات سهلة يسيرة لمبادىء تلك الأخلاق على المشاعر الانسانية. فنحن لانلمح في مجنون ليلى آثاراً قوية لذلك الصراع، ولاتمزقا داخليا عنيفا يهز مشاعرنا، وعلى العكس من ذلك يمر هذا الصراع مرورا هينا، فوالد ليلى يفّوض لها الأمر ويترك لها الخيار، فتفضّل في يسر وسهولة وردا الثقفي على قيس، دون أن نحس بأن هذا التفضيل قد كلفها عسيرا أو أثار في نفسها شجونا. واذا كان شوقي لم يشأ أن ينطق ليلى أمام أبيها أو أهل قبيلتها بما يفصح عن هذا الصراع، فقد كانت لديه وسائل مسرحية معروفة يستطيع بها أن يصور لنا هذا الصراع المؤثر بواسطة مايسمونه ب(الائتمان) أو بواسطة (المناجاة)."(16)
3- الشخصيات:
الشخصية هي العنصر الهام في النص، وهي التي تشكل وحدة مفصلية وخاصة في مجالها العلائقي لابصفاتها الخاصة وحسب، وفي هذا النص حوالي عشرين شخصية اضافة الى الشياطين والرجال والحداة والفتيات وغيرهم، ولكن الكثير من هذه الشخصيات لايخدم مايقوله النص، ويمكننا أن نستغني عن كثير منها دون اساءة الى وظيفة النص، ولذلك سنتوقف عند تحليل شخصيتي قيس وليلى لأن العمل يدور حول حبهما، ولأنهما الشخصيتان المحوريتان والأكثر أهمية.
شخصية قيس: ان التّسمية(قيس) تعيدنا الى العنوان,مجنون ليلى) وهذه التسمية، وهذا العنوان مفتاحان نصيان هامان للولوج الى الدلالة من خلآلهما، ويكفي أن نقول: ان شخصية قيس مرجعية، وهي شخصية العاشق المتيم الذي يموت حبا في التراث الأدبي، وهذا يعني أنها شخصية ارجاعية تحيل دائما الى الوراء، وتحيل الى خارج النص، وهي تحاول أن تحاكي الواقع الذي جاء في الكتب الأدبية وتستعيده، وهذا يعني أنها شخصية غير نصية. والمهم هنا أن نتلمس صفات هذه الشخصية في النص.
هو أولا سيد من سدات قومه وابن لسادة نجب، وهذا ماجاء على لسان منازل خصمه في حب ليلى وان كان منازل يسوق هذه الصفات ليوقع بقيس، فهو يمدحه ويسوق أماديحه ليحمله تبعة مافعلت أشعاره بليلى وأهلها وعادات القبيلة ويطلب دمه ثمنا لذلك:منازل: «حيث يستقبل الجمعين خطيباً»:
إن قيساً معشرَ الحي أخٌ
وابن عمٍّ أفمنه تبرأونْ؟
أصوات:
لاوربِّ البيتِ
منازل:
أصغوا لي إذن
ثم ظنّو كيف شئم بي الظنونْ
إن قيساً شاعر البيد الذي
لايُجارى أفأنتم منكرونْ؟
أصوات: لاوربّ البيت
منازل
أصغوا لي إذن
ثم ظنّو كيف شئتم بي الظنونْ
إن قيساً سيدٌ من عامرٍ
وابن ساداتٍ، أفيه تمترون؟
أصوات: لاوربّ البيت
منازل:
أصغوا لي إذن
ثم ظنّو كيف شئتم بي الظنونْ
إن قيساً قد بنى المجدّ لكمْ
ولنجدٍ أبقيسٍ تكفُرون؟
أصوات: لاورب البيتِ
منازل:
أصغوا لي إذن
ثم ظنّو كيف شئتم بين الظنونْ
إن قيساً كامل في عقلهِ
أو آنستم على قيس الجنون"17"