ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي، ومر عيسى وهو بمكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية، قال: فغطوه فجعل كلما صرخ غطوه في تلك الحمأة، قال: والله ما عاد إليه بعد.
قال: وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة قال: واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا قد لقيت تعبا، قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشرا كثيرا، وأبث فيهم أهواء مختلفة، وأجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله، قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى، فقال: { يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ... } .[المائدة: 110]
يعني: إذ قويتك بروح القدس - يعني جبريل - { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } الآية كلها، وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا، ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك، هاديا وقائدا إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا.
فقل لهم: ولم ذلك وما الذي يمنعني إن ذات يدي؟ قلت: أوليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء، وإن البخل لا يعتريني، أولست أجود من سأل، وأوسع من أعطى؟ أو أن رحمتي ضاقت، وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي، ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا أنفسهم بالحكمة التي تورث في قلوبهم، ما استأثروا به الدنيا أثره على الآخرة.
لعرفوا من أين أوتوا، وإذا لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام، وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني، ويستحلون محارمي؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟ يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟
ازددت عليهم غضبا يا عيسى، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من عبدني وقال: فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار، ورفقائك في المنازل، وشركاءك في الكرامة، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أني مثبت هذا الأمر على يدي عبدي محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يتزين بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره، والحكم معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحق شريعته، والإسلام ملته، اسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغني به بعد العائلة، وأرفع به بعد الضيعة، أهدي به وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل.
ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم، ومجالسهم، وبيوتهم، ومنقلبهم، ومثواهم يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، قرباتهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، رهبان بالليل، ليوث في النهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
وسنذكر ما يصدق كثيرا من هذا السياق، مما سنورده من سورتي المائدة والصف، إن شاء الله وبه الثقة.
وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده، عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وابن عباس، وسلمان الفارسي، دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما بعث عيسى بن مريم، وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزؤن به، فيقولون: ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله؟ فيخبرهم فيزداد المؤمنون إيمانا، والكافرون والمنافقون شركا وكفرانا.
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوي إليه، إنما يسيح في الأرض ليس له قرار، ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي، فقال لها: مالك أيتها المرأة؟
فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت، أو يحييها الله لي فأنظر إليها.
فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم.
قالوا: فصلى ركعتين، ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن، فاخرجي قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني؟
فقالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إليّ روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيمة.
ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين، يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة، وأن يهون علي كرب الموت، فدعا ربه فقبضها إليه، واستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا.
وقدمنا في عقيب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيي لهم سام بن نوح، فدعا الله عز وجل وصلى لله فأحياه الله لهم، فحدثهم عن السفينة وأمرها، ثم دعا فعاد ترابا.
وقد روى السدي، عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس في خبر ذكره: وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات، وحمل على سريره، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فأحياه الله عز وجل، فرأى الناس أمرا هائلا، ومنظرا عجيبا.
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ *وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } يذكره تعالى بنعمته عليه، وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس، ودلالة على كمال قدرته تعالى، ثم إرساله بعد هذا كله { وَعَلى وَالِدَتِكَ } في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة، وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون.[المائدة: 110-111]
ولهذا قال: { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو: جبريل بإلقاء روحه إلى أمه، وقرنه معه في حال رسالته، ومدافعته عنه لمن كفر به { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي: تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: الخط والفهم، نص عليه بعض السلف { وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } .
وقوله: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي: تصوره وتشكله من الطين على هيئته، عن أمر الله له بذلك { فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِي } أي: بأمري، يؤكد تعالى بذكر الإذن له في ذلك لرفع التوهم.
وقوله: { وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ } قال بعض السلف: وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء إلى مداواته { وَالْأَبْرَصَ } هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص، وصار داؤه عضالا { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي: من قبورهم أحياء بإذني، وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة مما فيه كفاية.