سيادة الفريق.. عرف التاريخ الإنساني مثقفين كثر أيقظوا ضمائر مجتمعاتهم في لحظات الشك, كما عرف أبطالا كثر قادوا أممهم في أوقات الأزمة, فكان الأولون ملهمين بالحق, فيما الآخيرون أمناء علي الحقيقة. ولعل اللحظة المثلي في تاريخ الوطن, أي وطن,
هي تلك التي يتلاقي فيها الحق مع الحقيقة, فإذا ما ظهرت بينهما فجوة أو تبدي جفاء تمددت مساحة ظل وظهرت ملامح خطر وجب علي المثقف التنبيه إليه, وترك للقائد حرية الفصل فيه. كان الكاتب الفرنسي الشهير إميل زولا قد فعل ذلك حينما أرقت ضميره مظالم اليهود في بلاده فرفع صوته مدافعا عن أحد ضباطهم درايفوس قائلا: إني أتهم, مشيرا إلي ظالميه. وكذلك فعل كاتب مصر الكبير توفيق الحكيم, عندما استفاق مما تصوره غفلة قصيرة تماهي فيها مع الاستبداد, فصرخ معلنا: عودة الوعي. لست قطعا بقيمة هذا ولا قامة ذاك, فلا أتهم أحدا ولا أتنصل من شئ, فما أدعيه فقط, كمواطن لم ينتم يوما لحزب سياسي أو تيار أيديولوجي;هو فقط حق البوح ببعض مخاوفي التي أخذت تثقل شعوري الإنساني وتؤرق ضميري الفكري..
أؤكد لكم, بداية, عميق احترامي لصفتكم, كقائد عسكري يجلس علي رأس المؤسسة الوطنية الأقوي في مصر, والأغلي علي المصريين, بدورها التاريخي الذي لا يماري فيه وطني مخلص, خصوصا لو كان, ككاتب هذه السطور, ممن تشرفوا بالخدمة في صفوفها وأدركوا, عن تجربة ومن قرب, قدرتها الفذة علي الفداء, وتوقها الأبدي لتلبية النداء, طالما صدر عن أبناء وطن هم منه وهو منهم, وعبر عن ضمائر مواطنين ينشدون الحياة في دولة ترعي الحق والعدل والحرية. وأؤكد لكم ثانية, خالص تقديري لشخصكم, كونكم رمزا واعدا لوطنية مصرية( صاعدة) أرجو لها أن تستعيد قيم التمدن والتحرر والرقي التي كانت لها قبل أن يطمسها الاستبداد ويقضي عليها الفساد, خصوصا بعد أن منحكم الشعب ثقته الغالية وتفويضه الثمين في التصدي للمتورطين في الإرهاب, المعطلين لخريطة المستقبل, ما دعاني إلي التوجه بمخاوفي إليكم باعتباركم( رجل الأمة) آملا أن تجد صداها عندكم, وأن تكون محلا لبحثكم..
أول مخاوفي تتمثل في تلك النشوة التي شعر بها أركان الدولة الأمنية السابقة علي25 يناير مع خروج مبارك من سجنه, إذ اعتبروا الحدث دليلا علي قوة هذه الدولة, وتبشيرا بعودتها, فإذا بهم يستحضرون شجاعتهم, ويستعيدون بلاغتهم القديمة ومصطلحاتهم المبتذلة في هجاء شرفاء الوطن الذين فجروا أو تصدروا ثورة25 يناير كالبرادعي وعمرو حمزاوي وإسراء عبد الفتاح وأسماء محفوظ وبلال فضل وعلاء عبد الفتاح وغيرهم كثير ممن يمكن الاختلاف مع بعض مواقفهم, ولكن يصعب التشكيك في منزعهم الثوري وطموحهم الليبرالي, الأمر الذي يبدي ثورة30 يونيو وكأنها محض انقلاب علي25 يناير.. ورغم أن الوجوه الكالحة لهؤلاء تظل الأعلي صوتا في تأكيد ثورية30 يونيو, إلا أن حضورهم نفسه, ناهيك عن مضمون خطابهم, وخدمتهم المعروفة للدولة الأمنية القديمة وأجهزتها القمعية, إنما يفت في عضد الكتلة المدنية الملتفة حول الدولة المدنية الجديدة, ويحبط وطنيين كثر يخشون أن تنزلق مصر بعيدا عن الديمقراطية, ولذا يتعين علي الدولة المصرية أن تنأي بنفسها عنهم, فلا تمنحهم حق الحديث باسمها أو المزايدة عليها, كي لا يتشوه وجه الحدث الكبير ولا تتوه المعالم في معركة المصير.
وثاني مخاوفي التي أبوح بها لكم تتمثل في ثقافة الكراهية التي تروجها تلك الوجوه, كأذرع ممتدة من داخل كهف الدولة العتيقة, ومتضامنة في الذود عن بقاياها من رجال مال وأعمال وسياسة وقانون وثقافة, وفي شيطنة ما سواها, خصوصا أنصار جماعة الإخوان, بحيث لا يكون هناك سبيل من التعاطي معهم إلا بالاستئصال العميق والانتقام المرير. وعلي الرغم من أن الإخوان شكلوا دولة تنتمي للماضي, كئيبة ومظلمة ومتخلفة, ثار المصريون ضدها أملا في دولة للمستقبل, تقوم علي الرفاهة والاستنارة والحرية, فإن هؤلاء يستغلون سوء دولة الإخوان, في تعويم دولة مبارك, وكأن قدر المصريين أن يراوحوا بين سييء وأسوأ. ولأن مشاعر الحقد لا تبني دولا, فالمرجو الآن هو الكف عن شيطنة الإخوان حتي لا يصعب علي الدولة بعد ذلك حمايتهم من المجتمع نفسه, والبحث عن تسويات نهائية تضع مجرميهم في السجون بحسب القانون, وتبقي شبابهم الواعد ضمن بناء الأمة الجامع; فلا صراع ينتهي دون تسوية, خصوصا مع شركاء الوطن, اللهم إلا إذا عولنا علي الخيار النازي( الحل النهائي) وهو المستحيل بعينه, وإذا كانت مصر قد سالمت إسرائيل فيجب ألا ترفض مصالحة قواعد الإخوان, لأجلنا نحن لا لأجلهم, أما إذكاء التناقض معهم باعتبارهم شرا مطلقا ونهائيا, فلا يخدم سوي استراتيجيات القمع وسياسات لاستبداد.
وأما ثالث مخاوفي التي أسر بها إليكم فهي محاولة هؤلاء توظيفكم في صراعهم مع أحرار الوطن, حيث تتوالي رسائلهم إليكم كي تتقدموا لرئاسة مصر الآن وتلعبوا دور( المخلص) علي عجل.. إن رئاستكم لمصر أمرا أراه مستحقا, وأظنه متاحا في اللحظة التي تقررونها, ولكن دعني أصارحكم القول بأن تلك اللحظة لم يأت أوانها بعد, وأن استدعاءها المتعجل يمثل أمرا معطلا ومربكا: معطلا علي الصعيد العسكري عن مهمة إعادة بناء الجيش المصري, وهي مهمة مقدسة لعلكم الأجدر بها والأقدر عليها. ومربكا علي الصعيد السياسي, لأنه يغذي حديث الانقلاب ويبديكم, في نظر العالم, جنرالا وارثا للحكم, ارتفع إليه علي قاعدة السلاح, فيما يعطي إشرافكم علي انتقال سلمي للسلطة مصداقية هائلة لحديث الثورة, ويبديكم فارسا للوطن, ارتقي لقيادته علي أفئدة الناس.
وختاما أقول لكم بكل ثقة إنكم سوف تتعرضون, اليوم وغدا, لضغوط كثيرة من أركان تلك الدولة البائدة تدعوكم إلي حضور متعجل, أو تدفعكم إلي تأييد أحد كهنتها السابقين, أو تستعديكم علي مخالفيهم من الليبراليين الحقيقيين والإسلاميين المعتدلين. ولكنني, أؤكد, وبالقدر نفسه من الثقة, في فطنتكم إلي تلك المرامي, وحكمتكم في النأي عن تلك الضغوط, توجيها للدولة المصرية نحو مستقبل جديد, فيكون لقاؤكم بسدة حكمها عندما يأتي أوانه, بعد انتقال مدني ضروري, لحظة تتويج لكم علي قلوب المصريين, لا لحظة تمكين لأولئك النفر من رقابهم أجمعين.
-----------------------------------------