:‏ كرامات الشيخ الشعراوي

الله أفاض عليه بالرؤية الصالحة ومتَّعه بالنظر إلى وجه النبى إبراهيم فى أحداث نقل مقامه

لم أستطع مجاراة الحياة بعد أن فارقنا ولم أتحمل فقده فقد كان بالنسبة لى كمثل الروح للجسد

مازلت أعيش تلك الأجواء الروحانية، التى تفجرت بداخلى فى ظل إحياء ذكرى وفاة فضيلة الإمام المجدد الشيخ محمد متولى الشعراوى، تلك الأجواء التى تفوح بعبق القرب ‏من الله والاغتراف من فضائل العبادة، حينما تكون خالصة لوجه الله تعالى. أكتب اليوم لأستكمل ما بدأته الأسبوع الماضى حول هذا العالم الجليل، وما أتناوله هذا الأسبوع لم ‏يأت من فراغ وإنما هو نتيجة تجربة شخصية عشتها مع فضيلته، أراها تجسيدًا حقيقيًا لتوفيق وفضل من الله منحه لى فى فترة من أجمل سنوات العمر. فالحمد لله، الذى تفضل ‏بنعمته وسهل الطريق المستقيم لأهل التوفيق وأذاقهم لذة أنسه من قربهم من حضرة قدسه وأنالهم مراتب الصفا وأنجز به ما وعد ووفى، وأحاطهم بحال الكرامات وجعل أتباعهم ‏أشرف السادات، فقد قال الحبيب المصطفى: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله».‏

الكرامة فى مشربنا ليست مجرد خرق للنواميس أو إعجاز للخوارق، للتباهى لمن أجريت الكرامة على يده، لكن الكرامة للولى هى فضل الله عليه من باب التميز والتعزيز، كى تبين وتوضح ‏فضل الله على أهل الله وأوليائه الصالحين.‏

والكرامة نوعان، الأولى: كرامة مادية، كما جاء فى سورة الكهف، والثانية: كرامة حسية معنوية، وهى معرفة الله حق المعرفة وهى حالة الوصل والوصال، وهى الأعلى والمطلوب للعارفين ‏بالله، ونحسب أن فضيلة الشيخ الشعراوى منهم بإذن الله.‏

وعبر سنين طويلة، رزقنى الله بصحبة بعض من أولياء العصر، وفِى تقديرى أنه أعظم أنواع الرزق، لأنهم جميعا أناس اتسموا بدماثة الخلق وحسن المعشر والقدرة على التربية والمشاركة فى ‏تشكيل ملامح الشخصية وغرس السلوك السوى، والسمو بالحال.‏

وأذكر ممن رزقت محبتهم لى وحبى لهم من المنتقلين إلى عالم الحق الآن، الشيخ محمد رضوان، والشيخ إسماعيل العدوى، وحسن عباس زكى وفضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، الذى نحيى ‏ذكراه الآن ونعيش سيرته العطرة، وكلهم لرسول الله ملتمس.. النبع واحد والمدد موصول، حتى لو اختلفت المشارب، فالنبع واحد والأصل واحد والفيض عظيم، ينتقل الإرث كابرًا عن كابر، ذريةً ‏صالحة بعضها من بعض.‏

إنه الحب فى الله والمنة من الله، وقبل كل شىء وبعد كل شىء، هو أيضا لله، فالحب فى الله له معارج بعدد أنفاس الخلائق، أقصرها وأضمنها وأحكمها عشق رسول الله الحبيب المجتبى والنور ‏المصطفى والرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير.‏

وللولاية علامات وصفات ودرجات، وهى جزء من العلم المكنون يتمتع به الخاصة، بل خاصة الخاصة، وإطلاع العلم على غير أهله عورة، لذا فإن أمورًا كثيرة ستكون تلميحًا، نكتفى فيها ‏بالإشارة والتلميح، وليس بالتصريح.‏

وقد كان فضيلة الإمام الشعراوى، علمًا يتميز بين المكتسب والموهوب، والمكتسب يأتى من الاجتهاد، والموهوب يأتى من المنة والعطاء الربانى ونتاج التقرب والتقوى: «اتقوا الله ويعلمكم الله»، ‏فكان الإمام يجمع بين العلمين، المكتسب والموهوب، ويجمع بين الشريعة والحقيقة، ويحلق بروحه ويسمو بها ويحيا واقعه بكل معطياته، فهو عالم ومفكر، قيادة وقدوة، ناسك ومجتهد، عشت معه ‏ردحًا من الزمان أقرب ما أكون إليه، الجار بالجنب، أفطر كل يوم فى صحبته وأعيش فى معيته، أنهل من وعاء الخيرات ومعين الحب الإلهى الذى لا ينفد.‏

كانت له مواقف حاسمة، أذكر منها على سبيل المثال، أن الله أفاض عليه بالرؤية الصالحة، وكان صاحب حظ وفير لها ومنها، أن متعه الله بالنظر إلى محيا وجه خليل الله إبراهيم فى أحداث نقل ‏مقامه.‏

ففى أثناء وجوده بمكة رحمه الله كان سببًا فى عدم نقل المقام، بعد أن كان خادم الحرمين الشريفين على وشك حضور الاحتفال، ولكنهم أبقوا عليه وقرروا عدم نقله بعد المذكرة التى أرسلها الشيخ، ‏فمن الله عليه بعدها برؤية سيدنا إبراهيم، فإن الحسابات والنظريات العقلية تتوقف ولا يكون لمناقشتها معنى إذا نظرنا إلى حياته، لأنها حافلة بالأسرار العالية لما وصل إليه من قمة بين أقرانه من ‏التفوق والرقى والغوص فى أسرار الله الكونية.‏

وشخصية الشعراوى تلك، هى الحالة التى هيجت نفسى وروحى وعقلى وقلبى، فقد شاهدته حينما كنت آنذاك جالسًا بجوار ابنى وزوجتى، وكنت فى ذلك الوقت بعيدا عن متابعته لموقف أغضبنى ‏منه أثناء مقابلة تمت بيننا فى مناسبة جماعية.‏

المهم أنه ما إن شاهدته حتى حصل ببركة تلك الزيارة الغيبية ما كنت أتمناه وأدعو الله به، وهو شفاء ابنى من مرض ألم به ولم أستطع فى تلك اللحظات التأكد إن كانت رؤيتى للشيخ مجرد خيال ‏منى أو كانت حقيقة، وانشغلت بعدها إلى أن فوجئت أثناء وجودى فى المدينة المنورة بأحد الإخوة، وكان قريبا من الشيخ، يزورنى ويطلب منى أن أذهب معه إليه فى مكان قريب من المسجد النبوى.‏

حاولت الاعتذار حيث كان لايزال بداخلى بعض الشىء من الحزن بسبب تعنف الشيخ فى مناقشته معى، لكن أمام إصرار صديقى ذهبت وفى داخلى أتمنى أن تكون زيارة سريعة، وتعمدت عندما ‏دخلنا عليه أن أجلس بعيدًا عنه لكى لا يتذكرنى، ولكن يبدو أن حياتى كانت على موعد صداقته ووده وحبه، فما إن جلست حتى نظر إلىّ وطلب منى الجلوس بجواره.‏

وعندما قال صديقى بلطف: «الدكتور حسن مازال غاضبًا من حضرتك بسبب المناقشة بينكما»، فضحك الشيخ، وقال له: «لقد قمنا بصلحه»، وسألنى: «كيف حال ابنى؟»، فكانت الدهشة والفرحة ‏والسعادة التى لم تنطلق فى أسمى معانيها فى حياتى بصحبة شخص إلا مع هذا الرجل، فمعرفتى به كانت هى أفضل شهادة نلتها فى حياتى، فقد حصل الاتصال على الهاتف الداخلى المتصل ‏بالفطرة السليمة بالمعانى النبيلة التى تلتقى فى حب هذا الشيخ، فجاءت المكاشفة بشىء لم يعلمه غير الله.‏

لذا فإننى لم أستطع مجاراة الحياة بعد أن فارقنا رضى الله عنه، ولم أتحمل فقده، فقد كان رحمه الله بالنسبة لى كمثل الروح للجسد وكمثل النور للعينين، فقد لازمته سنين طويلة الملازمة التامة ‏حتى الوفاة، فكان الشيخ الذى لا تجد مثله إلا فى بطون التاريخ والسير وكتب التراجم.‏

كان بالنسبة لى المربى الذى أعطانى اهتمامه وعنايته فرقيت أخلاقى وصفت مهجتى من الأمراض القلبية واجتمعت معه ونلت شرف قول النبى صلى الله عليه وسلم: «رجلان تحابا فى الله»، ‏وكان الوالد والأب، وإن كنت ذا أب رفيع خلقه، وهو من أذابنى عشقا فى حب العلم والقراءة وأعلى فى نظرى مقام العلم والتعلم، فالشيخ الشعراوى كان العالم الذى يدهشك فى علمه ويطربك فى ‏تفسيره، وقد كان بالنسبة لى البحر العميق الذى كله خير، ملأ حبه قلبى ومهجتى وروحى.‏