حجر عتيق فوق صدر النيلِ |
يصرخُ في العراء .. |
يبكي في أسى |
ويدور في فزع |
ويشكو حزنهُ للماء .. |
كانت رياح العري تلفحهُ فيحني رأسهُ |
ويئنُ في ألمٍ وينظرُ للوراء .. |
يتذكرُ المسكينُ أمجادَ السنينِ العابراتِ |
على ضفافٍ من ضياء .. |
يبكي على زمنٍ تولَّى |
كانت الأحجارُ تيجاناً وأوسمةً |
تزيِّنُ قامةَ الشرفاء .. |
يدنو قليلاً من مياهِ النهرِ يلمَسُها |
تعانقُ بؤسَهُ |
يترنَّحُ المسكينُ بين الخوفِ والإعياء .. |
ويعودُ يسألُ |
فالسماءُ الآن في عينيهِ ما عادت سماء .. |
أين العصافيرُ التي رحلَت |
وكانت كلما هاجت بها الذكرى |
تحِنُّ الى الغناء .. |
أين النخيلُ يعانقُ السُّحبَ البعيدةَ |
كلما عبَرتْ على وجهِ الفضاء .. |
أين الشراعُ على جناحِ الضوءِ |
والسفر الطويل .. ووحشة الغرَباء .. |
أين الدموعُ تطلُّ من بين المآقي |
والربيعُ يودع الأزهارَ |
يتركها لأحزانِ الشتاء .. |
أين المواويلُ الجميلةُ |
فوق وجهِ النيلِ تشهد عُرسَهُ |
والكون يرسمُ للضفاف ثيابها الخضراء .. |
حجرٌ عتيقٌ فوق صدر النيلِ يبكي في العراء .. |
حجرٌ ولكن من جمودِ الصَّخرِ ينبتُ كبرياء .. |
حجرٌ ولكن في سوادِ الصَّخرِ قنديلٌ أضاء .. |
حجرٌ يعلمنا مع الأيامِ درساً في الوفاء .. |
النهرُ يعرفُ حزنَ هذا الصامت المهموم |
في زمنِ البلادةِ .. والتنطُّعِ .. والغباء .. |
* * * |
حجرٌ عتيقٌ فوق صدر النيلِ يصرخُ في العراء .. |
قد جاءَ من أسوان يوماً |
كان يحملُ سرَّها |
كالنورِ يمشي فوق شطِّ النيلِ |
يحكي قصَّةَ الآباءِ للأبناء .. |
في قلبهِ وهجٌ وفي جنبيهِ حلمٌ واثقٌ |
وعلى الضفافِ يسيرُ في خُيلاء .. |
ما زالَ يذكرُ لونهُ الطيني |
في ركبِ الملوكِ وخلفَهُ |
يجري الزمانُ وتركعُ الأشياء .. |
حجرٌ من الزَّمنِ القديم |
على ضفافِ النيلِ يجلسُ في بهاء .. |
لمحوهُ عندَ السدِّ يحرسُ ماءهُ |
وجدوهُ في الهرمِ الكبيرِ |
يطلُّ في شممٍ وينظرُ في إباء .. |
لمحوهُ يوماً |
كان يدعو للصلاةِ على قبابِ القدسِ |
كان يُقيمُ مئذنةً تُكَبِّرُ |
فوقَ سد الأولياء .. |
لمحوهُ في القدس ِ السجينةِ |
يرجُمُ السفهاء .. |
قد كانَ يركضُ خلفَهم مثل الجوادِ |
يطاردُ الزمن الردئَ يصيحُ فوق القدسِ |
يا اللهُ .. أنتَ الحقُّ .. أنتَ العدلُ |
أنتَ الأمنُ فينا والرجاء .. |
لا شئَ غيركَ يوقفُ الطوفان |
هانت في أيادي الرجسِ أرضُ الأنبياء .. |
حجرٌ عتيقٌ في زمانِ النُّبلِ |
يلعنُ كلَّ من باعوا شموخَ النهرِ |
في سوقِ البغاء .. |
وقفَ الحزينُ على ضفافِ النهرِ يرقُبُ ماءَهُ |
فرأى على النهرِ المُعذَّبِ |
لوعةً .. ودموعَ ماء .. |
وتساءَلَ الحجرُ العتيقُ |
وقالَ للنهرِ الحزينِ أراكَ تبكي |
كيفَ للنهرِ البكاء .. |
فأجابهُ النهرُ الكسيرُ |
على ضفافي يصرخُ البؤساء .. |
وفوقَ صدري يعبثُ الجهلاء .. |
والآن ألعَنُ كلَّ من شربوا دماءَ الأبرياء .. |
حتى الدموعُ تحجَّرت فوقَ المآقي |
صارت الأحزانُ خبزَ الأشقياء .. |
صوتُ المَعاولِ يشطُرُ الحجرَ العنيدَ |
فيرتمي في الطينِ تنزفُ من مآقيهِ الدماء .. |
ويظلُّ يصرُخُ والمعاولُ فوقَهُ |
والنيلُ يكتمُ صرخةً خرساء .. |
* * * |
حجرٌ عتيقٌ فوق صدرِ النيلِ يبكي في ألمْ .. |
قد عاشَ يحفظُ كلَّ تاريخِ الجدودِ وكم رأى |
مجدَ الليالي فوقَ هاماتِ الهرمْ .. |
يبكي من الزَّمنِ القبيحِ |
ويشتكي عجزَ الهِمَم .. |
يترنَّحُ المسكينُ والأطلالُ تدمي حولَهُ |
ويغوصُ في صمتِ الترابِ |
وفي جوانحهِ سأم .. |
زمن بنى منهُ الخلود وآخَرٌ |
لم يبْقَ منهُ سوى المهانةُ والندم .. |
كيفَ انتهَى الزَّمنُ الجميلُ |
الى فراغٍ .. كالعَدَمْ .. |
* * * |
حجرٌ عتيقٌ فوق صدر النيلِ يصرخُ |
بعدَ أنْ سَئِمَ السكوتْ .. |
حتى الحجارةُ أعلنَت عِصيانَها |
قامَت على الطرُقاتِ وانتفضَت |
ودارت فوقَ أشلاءِ البيوت .. |
في نبضِنا شئٌ يموت .. |
في عزمِنا شئٌ يموت .. |
في كلِّ حجَرٍ على ضفافِ النهرِ |
يرتَعُ عنكبوت .. |
في كلِّ يومٍ في الرُّ بوعِ |
الخُضرِ يولَدُ ألفُ حوت .. |
في كلِّ عُشٍّ فوقَ صدرِ النيلِ |
عصفورٌ يموت .. |
* * * |
حجرٌ عتيقٌ |
لم يزلْ في الليلِ يبكي كالصغارِ |
على ضفافِ النيلْ .. |
ما زالَ يسألُ عن رفاق ٍ |
شاركوهُ العمرَ والزَّمنَ الجميل .. |
قد كانت الشطآنُ في يوم ٍ |
تُداوي الجرحَ تشدو أغنياتِ الطيرِ |
يطربُها من الخيلِ الصهيل .. |
كانت مياهُ النيلِ تَعشقُ |
عطرَ أنفاسِ النخيل .. |
هذي الضفافُ الخُضرُ |
كم عاشَت تُغَنّي للهوى شمسَ الأصيل .. |
النهرُ يمشي خائراً |
يتسكَّعُ المسكينُ في الطُرُقاتِ |
بالجسَدِ العليل .. |
قد علَّموهُ الصَّمتَ والنسيانَ |
في الزمنِ الذّليل .. |
قد علَّموا النهرَ المُكابرَ |
كيفَ يأنسُ للخُنوعِ |
وكيفَ يركَعُ بين أيدي المستحيلْ .. |
* * * |
حجرٌ عتيقٌ فوق صدر النيلِ يصرخُ في المدى .. |
الآن يلقيني السماسرةُ الكبارُ الى الرَّدى .. |
فأموتُ حزناً |
لا وداعَ .. ولا دُموعَ .. ولا صَدى .. |
فلتسألوا التاريخَ عنِّي |
كلُّ مجدٍ تحت أقدامي ابتدا .. |
أنا صانعُ المجدِ العريقِ ولم أزل |
في كلِّ رُكنٍ في الوجودِ مُخلَّدا .. |
أنا صحوةُ الانسانِ في ركبِ الخُلودِ |
فكيفَ ضاعَت كلُّ أمجادي سُدَى .. |
زالت شعوبٌ وانطوَتْ أخبارُها |
وبقيتُ في الزَّمنِ المكابِرِ سيِّدا .. |
كم طافَ هذا الكونُ حولي |
كنتُ قُدّاساً .. وكنتُ المَعبدا .. |
حتى أطَلَّ ضياءُ خيرِ الخَلقِ |
فانتفَضَت ربوعي خشيةً |
وغدوتُ للحقِّ المثابرِ مسجدا .. |
يا أيُّها الزَّمنُ المشوَّهُ |
لن تراني بعدَ هذا اليومِ وجهاً جامِدا .. |
قولوا لهُم |
إنَّ الحجارةَ أعلنَت عِصيانَها |
والصامِتُ المهمومُ |
في القيدِ الثقيلِ تمرَّدا .. |
سأعودُ فوقَ مياهِ هذا النَّهرِ طيراً مُنشِدا .. |
سأعودُ يوماً حينَ يغتسلُ الصباحُ |
البكرُ في عينِ النَّدى .. |
قولوا لهُم |
بينَ الحجارةِ عاشقٌ |
عرِفَ اليقينَ على ضفافِ النيلِ يوماً فاهتدى .. |
وأحبَّهُ حتى تَلاشَى فيهِ |
لم يعرِف لهذا الحبِّ عُمراً أو مدى .. |
فأحبَّهُ في كلِّ شئ ٍ |
في ليالي الفرحِ في طعمِ الرَّدَى .. |
مَن كانَ مثلي لا يموتُ وإنْ تغيَّرَ حالُهُ |
وبدا عليهِ .. ما بدا .. |
بعضُ الحجارةِ كالشموس ِ |
يَغيبُ حيناً ضوؤُها |
حتى إذا سَقَطَت قِلاعُ الليلِ وانكسرَ الدُّجى |
جاءَ الضياءُ مغرِّدا .. |
سيظلُّ شئٌ في ضميرِ الكونِ يُشعِرُني |
بأنَّ الصُّبحَ آتٍ .. أنَّ موعِدهُ غدا .. |
ليَعودَ فجرُ النيلِ من حيثُ ابتدا .. |
ليَعودَ فجرُ النيلِ من حيثُ ابتدا .. |
* * * * * |