محاكمة عاطفية لجمال عبد الناصر

[rtl]محاكمة عاطفية لجمال عبد الناصر

[/rtl]

يقترب عيد ميلاده المائة؛ فابتسم لصورته التى فى قلبى قائلا«هم لا يعلمون أنك المولود من بعض حورمح» الذى حارب ليحفظ داخل مصر متماسكا، ومن بعد أحمس الذى طور العلم العسكرى وأشعل محبة الوطن فى قلوب البسطاء فهزم الهكسوس؛ وبك كثير من آلام من اختطفتهم أيدى الشركس من ربوع الصعيد والدلتا كى يحفروا قناة السويس فلم يحفروها بالفؤوس فقط ؛ بل بدمائهم لتتحول القناة من بعد ذلك إلى بقرة حلوب لحساب إنجلترا وفرنسا؛ ولم تكتف بسماع ما تركه مصطفى كامل من أنه تمنى لولم يكن مصريا لتمنى أن يكون مصريا؛ بل صحا فى ضميرك صوت عرابى وهو يرفض العبودية لولى النعم العثمانى وشريكه الإنجليزي، وتعلمت من سعد زغلول أن العبارات الحلوة المنادية بالعدالة والحرية؛ تظل أسيرة حروفها وليس لها قوة نيران تجبر المحتل على الرحيل ؛ وعلمت منه أيضا أن بنود أى دستور لا تؤسس جلبابا للفلاح ولا رغيف خبز لابن المدينة الذى يحيا على هامشها بينما يذهب خير الوطن كله قسمة بين نصف بالمائة وبين مندوبى الاستعمار. ورأيت فى حرب فلسطين أن قوة النيران التى يملكها أهل العلم بها يمكنها أن تهزم أصحاب الحق فتحول فلسطين من وطن لأصحابها إلى مركز تجميع لشتات عنصري، وكونت تنظيم الضباط الأحرار لعل ما تملكونه من قوة بسيطة قادرة على هزيمة الترهل.

وعندما أيقن عبد الناصر أن «القومية العربية» هى سفينة نجاة من عواصف الاستعمار والتخلف، قام بالمناداة بها فالتف حول رايتها المؤمنون بها لكن كان ينقصهم الإيمان بأن ثروات العالم العربى عليها أن تعمل فى الأرض العربية من محيطها إلى خليجها. ونتيجة للخوف من تأثير ثورة يوليو بدأت لعبة القوى العالمية إيجاد صراعات خفية وعلنية؛ تلتحف أحيانا بمودة زائفة وتخلل ذلك صراعات لم يتم حسمها بالمناقشة والتفاهم؛ لكن الصراعات عبرت عن نفسها إما فى هيئة تآمر يكون فيها العربى فى حرب علنية أو مكتومة مع العربي. والتفاصيل الدامية لمسلسل الصراع العربى العرب يمكن أن تملأ صفحات وصفحات.

وعندما أتأمل لحظة الإفاقة الفارقة فى جيلى وهى هزيمة يونيو 1967 ؛ فوجئ عموم الجيل الشاب أن أسلوب اختيار جمال عبد الناصر للقيادات المعاونة يحمل من الأخطاء ما يفوق الخطايا؛ فعلى سبيل المثال كيف لعبد الناصر بكامل قدراته السياسية ونبل أفكاره ؛ وكان أمامه اثنان المسافة بينهما شاسعة هما عبد الحكيم عامر وعبد المنعم رياض؛ فكيف يختار للقيادة رجلا ودودا وطيبا, ولكن قدراته لا تساوى العلمية العسكرية أبدا مع عبد المنعم رياض. وكيف يقبل إبعاد أحد سادة العلم العسكرى ليكون فى موقع هامشي؟ وكيف يقبل استقالة عدد من اهل الإنجاز مثل عبد اللطيف البغدادى, وكان قد تولى ضمن المناصب الكثيرة منصب وزير الحربية؛ ثم اختلف مع عبد الحكيم عامر فأهداه عبد الناصر منصب رئاسة مجلس النواب؛ وعندما اقترب البغدادى من الاستفادة من فكرة الديمقراطية؛ كان اصطدام البغدادى مع كمال الدين حسين كمسؤل لا يليق عن التعليم؛ هنا رفض عبد الناصر الانحياز لرأى البغدادي؛ وانتصر لبقاء كمال الدين حسين فى موقعه؛ ثم حدث الخلاف الجوهرى بين عبد الناصر ورفاقه الباقين من مجلس الثورة وبين عبد الحكيم عامر؛ فاستغنى عمن لم يرض عامر عنهم.

ولم يرو لنا أحد تفاصيل ترهل إدارة عبد الحكيم لعمله الذى تسبب فى وقوع الهزيمة العسكرية؛ بينما كان عبد المنعم رياض قادرا على اكتشاف الكامن من قدرات خارقة فى المقاتل المصري، ورغم استشهاد رياض عام1969 فإن بصمته فى صناعة النصر عام 1973 كانت واضحة لأنه لا يوجد ضابط اشترك فى هذا النصر إلا وملفه الشخصى قد قرأه عبد المنعم رياض كما روت الوثيقة الراقية التى أصدرتها القوات المسلحة بعد مرور خمسة وعشرين عاما على نصر أكتوبر.

وعن نفسى وأنا الذى أجد قلبى على هيئة جمال عبد الناصر محبة تتزاحم بالعتاب؛ فعلى سبيل المثال حدث أن قرأت كتاب «تاريخ الحركة الوطنية» للمثقف اليسارى شهدى الشافعى عطية؛ اندهشت بمرارة قاسية لأن هذا المثقف مات تحت ضربات التعذيب لمجرد أنه يسارى .

واندهش حين أزور السد العالى ، فهو إنجاز عبد الناصر الشامخ ؛ فضلا عن خطة تنمية وحيدة مكتملة فى التاريخ المصرى ووصل عائدها لأصغر بيت فى أبعد قرية عن العاصمة. ولكن أسلوب اختياره لبعض المعاونين كان يعتمد على الولاء لشخصه وكأنه هو «المبدأ». وكثيرا ما سألت صديقى عضو الضباط الأحرار محمد زغلول كامل وهو من عمل مديرا للخدمة السرية ثم زميلا للسيد سامى شرف؛ كثيرا ما سألته «كان أمام عبد الناصر شخص يعلو شمس بدران وزير الهزيمة، وهذا الشخص هو يوسف صبرى أبو طالب ضابط المدفعية الذى قال بوضوح «المقاتل يهب حياته دفاعا عن وطن لا عن شخص ؛ فالشخص يعلم أنه قد يزول لكن الوطن هو الأبقي» ولذلك لم يقبل يوسف صبرى أبو طالب أى منصب مدنى لأن «الشخصانية» كانت تعلو الأفكار الأساسية الحاكمة. إنجازات عبد الناصر تفوق الخيال، وهزيمته مازالت تكلفنا الكثير؛ فالوطن العربى المفكوك حاليا كان بإمكانه أن يكون فى وضع غير متهرىء.

وفخرى بعبد الناصر يفوق اى خيال؛ وعتابى لخطايا اختياراته لبعض المواقع تفوق الخيال ايضا.

وكل كلمة كتبتها فى السطور السابقة كان لها خلفية فى خيالى وهى صورة صديقى مصطفى الفقى الذى قام ويقوم بتمصير مكتبة الإسكندرية، لأنى أومن بأن مصطفى الفقى قادر بتحيز للوطن بكامله ومحبته لعبد الناصر أن يقدم لنا حقائق تاريخ الانتصار والانكسار لعلنا بضوء ما مر علينا نستطيع صناعة المستقبل دون أن تجذبنا الخطايا إلى هزائم ودون ان ننسى مسلسل ما أضافه العظام لحركة الحياة فى بر المحروسة.