تفسير سورة الإخلاص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلَّى الله على رسول الله وسلَّم وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وبعد سورة الإخلاص مكية في قول ابن مسعود وغيره ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقاله غيره وهي أربع ءايات
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم أن رجلًا قام من الليل فقرأ “قل هو الله أحد” السورة يرددها لا يزيد عليها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : “والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرءان”. وفي رواية : “قُل هوَ اللهُ أحَدٌ تَعدِل ثُلُثَ القُرءان” رواه أبو عوانة. أي ثواب قراءة سورة الإخلاص يشبه ثوابَ قراءةِ ثلُثِ القرءان مِن بعضِ النّواحِي لما فيها من التوحيد ولكن ليسَ مِثلَه على التّمام.
قال السيوطي في شرح مسلم قيل معناه أن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وصفات الله تعالى وقل هو الله أحد متمحضة للصفات فهي ثلث وجزء من ثلاثة أجزاء. ومثل ذلك نقل النووي في شرح مسلم عن المازري.
قال في فيض القدير لأن معاني القرآن آيلة إلى ثلاثة علوم علم التوحيد وعلم الشرائع وعلم تهذيب الأخلاق وتزكية النفس ، والإخلاص تشمل على القسم الأشرف منها الذي هو كالأصل للأخيرين وهو علم التوحيد.
روى الترمذي والحاكم عن أُبيّ بن كعب أن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله عزَّ وجلَّ : ﴿قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد﴾ لأنه ليس شىء يولد إلا يموت وليس شىء سيموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث قال : “لم يكن له شبيه ولا عَدل وليس كمثله شىء”، صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ في الفتح : “أخرج البيهقي في الأسماء والصفات بسند حسن عن ابن عباس أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : صف لنا ربك الذي تعبده، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿قل هو الله أحد الله﴾ إلى ءاخرها، فقال : “هذه صفة ربي عزَّ وجلَّ” .
معنى «بسم الله» أي أبتدئ باسم الله، ولفظ الجلالة «الله» علم للذات المقدس المستحقِّ لنهاية التعظيم وغايةِ الخضوع، ومعناهُ من له الإلهية وهي القدرةُ على الاختراع أي إبرازِ المعدومِ إلى الوجودِ.
واسم الله علم غير مشتق قال الخليل بن أحمدَ الفراهيديُّ: اسم الذات المقدس الله ليس مشتقًا بل مرتجل، وحُكي عن سيبويه، هذا الذي اختاره الأكابر من اللغويين. وكلمة الإله خاصة بالله فمن استعملها لغير الله يكفر. أنظر: كَيْفَ يُحَافِظُ المُسْلِمُ عَلَى إيـمَانِهِ: إجْتِناب الوُقوع في الرّدّةِ والكُفْرِ
والرحمٰنِ معناه الكثيرِ الرحمة بالمؤمنين والكافرين في الدنيا وبالمؤمنين في الآخرة. أما الرحيم فمعناه الكثيرِ الرحمة بالمؤمنين.
قال الله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية 156]. هذه الآيةُ دليلٌ على أنّ الله تعالى يرحمُ المؤمنين والكافرين في الدنيا وذلك بأن يُعطيَهُم الصحةَ والرزقَ والهواءَ العليلَ والماءَ الباردَ وما أشبهَ ذلكَ، أما في الآخرة فيخُصُّها للمؤمنين. ﴿ورحمتي وسعت كل شىء﴾ أي في الدنيا ﴿فسأكتبها﴾ أي في الآخرة ﴿للذين يتقون﴾ أي يجتنبون الشرك وجميع أنواع الكفر. كما جاء في الحديث الصحيح: « إن الله يعطي الدنيا لِمن يُحب ولِمن لا يُحب ولا يُعطي الإيمانَ إلا لِمن يُحب » وفي رواية « إن الله يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا لمن يحب ». الله تبارك وتعالى فضلاً منه وكرمًا جعلَ رحمتَه في الدنيا عامة شاملة للمؤمنينَ والكافرينَ وجعلها خاصةً في الآخرةِ بالمؤمنينَ دونَ الكافرينَ عدلاً منهُ لأنه تبارك وتعالى ليس ملزمًا بشىء.
قل أي يا محمد، هو الله أحد، قال البخاري في صحيحه: “أي واحد”، فالله تعالى واحد لا شريك له ولا شبيه له ولا وزير له لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شىء وهو خالق كل شىء، وفي “شرح كتاب التوحيد” من صحيح البخاري يقول الحافظ ابن حجر: “وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثَمَّ قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم القشيري : التوحيد إفراد القديم من المُحدَث، وقال أبو القاسم التميمي في كتاب “الحجة” : التوحيد مصدر وَحَّدَ يُوَحّدُ، ومعنى وحدت الله اعتقدته منفردًا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وقيل : معنى وَحَّدته علمته واحدًا” اهـ، ثم قال : “وقال ابن بطال : تضمنت ترجمة الباب : أن الله ليس بجسم لأن الجسم مركَّب من أشياء مؤلفة” اهـ. وقد افتتح البخاري كتاب التوحيد من صحيحه بقوله : “باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، وقال في لسان العرب : “والتوحيد الإيمان بالله وحده لا شريك له” اهـ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى التوحيد ويعلمهم الإيمان وشرائع الدين مبينًا لهم ما نزل إليهم من ربهم، روى ابن ماجه في سننه عن جُندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزَاوِرَة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانًا”، وإسناد هذا الحديث صحيح كما ذكر الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة، والحزاورة : الأشداء.
وفي كتاب “البيان والتحصيل” : “أن الإمام مالكَ بن أنس رضي الله عنه قال : وسمعت أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب أنه قد قرأ القرءان رجال فكتب إليه عمر : أن افرض لهم وأعطهم وزدهم، ثم كتب إليه أبو موسى الأشعري : أنه لما فعلنا ذلك أسرع الناس في القراءة حتى قرأ سبعمائة، فكتب إلي عمر: أن دع الناس فإني أخاف أن يقرأ الناس القرءان قبل أن يتفقهوا في الدين، قال مالك: وإنما قال ذلك مخافة أن يتأولوه على غير تأويله. قال القاضي محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لأن التفقه في القرءان بمعرفة أحكامه وحدوده ومفصَّله ومجمله وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه ءاكدُ من حفظ سواده فيكون من حفظ سواده ولم يتفقه فيه ولا عرف شيئًا من معانيه كالحمار يحمل أسفارًا، وقد أقام عبد الله بن عمر على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها لأنه كان يتعلمها بفقهها ومعرفة معانيها. وبالله التوفيق اهـ.
قال البيهقي في الأسماء والصفات عند شرح أسماء الله الحسنى في باب جِماع أبواب ذكر الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى جَدُّه : “منها الأحد، قال الحليمي : وهو الذي لا شبيه له ولا نظير، كما أن الواحد هو الذي لا شريك له ولا عديد ولهذا سمى الله عزَّ وجلَّ نفسَه بهذا الاسم لما وصف نفسه بأنه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فكأن قوله جلَّ وعلا : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) من تفسير قوله : (قل هو الله أحد)، والمعنى لم يتفرع عنه شىء ولم يتفرع هو عن شىء” اهـ.
والله تعالى منزه عن الجسمية والكيفية كما ذكر الإمام أبو سليمان الخطابي