وقال الشعبي: سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنك شاهد الدنيا عن غائب الآخرة واقهروا طول الأمل بقصرالأجل.
وكان الحجاج كثيراً ما يسأل القراء، فدخل عليه يوماً رجل فقال له: ما قبل قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل). فقال: (قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار)، قال: فما سأل أحداً بعدها.
وقيل: أخذ الحجاج أعرابياً سرق فأمر بضربه فضرب، فكلما ضربه بالسوط قال: اللهم شكراً، فأتاه ابن عم له وقال: والله ما دعا الأمير إلى التمادي في ضربك إلا لكثرة شكرك لأن الله تعالى يقول: (ولئن شكرتم لأزيدنكم). فأمر بإطلاقه.
ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أننا لم نر امرأة قط أفصح منها لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، قال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير؛ هو الذي يقول:
حمامة بطـن الـواديين تـرنـمـي | | سقاك من الغر الغوادي مطـيرهـا |
أبيني لنا لا زال ريشـك نـاعـمـاً | | ولا زلت في خضراء غض نضيرها |
وكنت إذا ما جئت ليلى تبـرقـعـت | | فقد رابني منها الغداة سـفـورهـا |
يقول رجـال: لا يضـيرك بـأيهـا | | بلى، كل ما شف النفوس يضيرهـا |
بلى قد يضير العين أن تكثر البـكـا | | ويمنع منها نومـهـا وسـرورهـا |
وقد زعمت ليلـى بـأنـي فـاجـر | | لنفسي تقاها أو عليها فـجـورهـا |
فقال الحجاج: يا ليلى ما رابه من سفورك؟ قالت: أيها الأمير كان يلم بي كثيراً فأرسل إلي: آتيك، ففطن الحي به فترصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشر فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك هل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ قالت: لا والذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها | | فليس إليها ما حييت سبـيل |
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه | | وأنت لأخرى صاحب وخليل |
وكان الحجاج إذا سمع بنوح في دار هدمها، فلما مات ابنه وأخوه حن إلى النوح، وكان يعجبه أن يسمعه، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبري | | فلن يرجع الموتى جنين المـآتـم |
وكان يتمثل بهذا البيت أيضاً وهو:
فإن تحتسب تؤجر وإن تبكه تكن | | كباكية لم يحي ميتاً بكـاؤهـا |
وبالجملة فأخبار الحجاج كثيرة، وشرحها يطول. وهو الذي بنى مدينة واسط وكان شروعه في بنائها في سنة أربع وثمانين للهجرة وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وإنما سماها واسط لأنها بين البصرة والكوفة فكأنها توسطت بين هذين المصرين؛ وذكر ابن الجوزي في كتاب شذور العقود المرتب على السنين أنه فرغ من بنائها في سنة ثمان وسبعين، وكان قد ابتدأ من سنة خمس وسبعين، والله أعلم.
ولما حضرته الوفاة أحضر منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت؟ قال: نعم، ولست هو، فقال: وكيف ذلك؟ قال المنجم: لأن الذي يموت اسمه كليب، فقال الحجاج: أنا هو والله، بذلك كانت سمتني أمي، فأوصى عند ذلك.
وكان الحجاج ينشد في مرض موته هذين البيتين، وهما لعبيد بن سفيان العكلي:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا | | أيمانهم أنني من ساكني الـنـار |
أيحلفون على عمـياء ويحـهـم | | ما ظنهم بقديم العفـو غـفـار |
وكتب إلى الوليد بن عبد الملك كتاباً يخبره فيه بمرضه، وكتب في آخره:
إذا ما لقيت الله عنـي راضـياً | | فإن سرور النفس فيما هنالـك |
فحسبي حياة الله من كل مـيت | | وحسبي بقاء الله من كل هالك |
لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا | | ونحن نذوق الموت من بعد ذلك |
وكان مرضه بالأكلة وقعت في بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحما وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير. وسلط الله تعالى عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها؛ وشكا ما يجده إلى الحسن البصري ر فقال له: قد كنت نهيتك ألا تتعرض إلى الصالحين فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسال الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديداً. وأقام الحجاج على هذه الحالة بهذه العلة خمسة عشر يوماً، وتوفي في شهر رمضان، وقيل في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة وعمره ثلاث، وقيل أربع وخمسون سنة، وهو الأصح.
وقال الطبري في تاريخه الكبير: توفي الحجاج يوم الجمعة لتسع بقين من شهر رمضان سنة خمس وتسعين، وقال غير الطبري: لما جاء موت الحجاج إلى حسن البصري سجد لله تعالى شكراً، وقال: اللهم إنك قد أمته فأمت عنا سنته.
وكانت وفاته بمدينة واسط ودفن بها، وعفي قبره وأجري عليه الماء، رحمه الله تعالى وسامحه.
وكان قد رأى في منامه أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدي وهند بنت أسماء بن خارجة، فطلق الهندين اعتقاداً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال: والله هذا تأويل رؤياي، محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: من يقول شعراً يسليني به؟ فقال الفرزدق:
إن الرزية لا رزية مثلها | | فقدان مثل محمد ومحمد |
ملكان قد خلت المنابر منهما | | أخذ الحمام عليهما بالمرصد |