كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف.الحمد لله وصلواته على سيّدنا محمَّد وآله وصَحبه وسلّم.
ثم هلك بعضُ المدرَّسين بمدرسة القمحية بمصر، من وَقْف صلاح الدين بن أَيُّوب، فولاَّني تدريسها مكانه، وبَينا أَنا في ذلك، إِذ سَخِط السلطان قاضي المالكية في دولته، لبعض النَّزَعات فعزله، وهو رابعُ أربعة بعدد المذاهب، يُدعى كلُّ منهم قاضي القُضاة، تمييزاً عن الحُكَّام بالنيابة عنهم، لاَّتساع خُطَّة هذا المعْمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفعُ من الخصومات في جوانبه؛ وكبيرُ جماعتهم قاضي الشَّافعية، لِعُموم ولايته في الأعمال شرقاً وغرباً، وبالصَّعيد والفيوم، واستقلاله بالنظر في أموال الأيتام، والوصايا؛ ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديماً بالولاية إنّما كانت تكون له.
فلما غزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة، اختصنى السلطان بهذه الولاية، تأهيلاً لمكاني، وتنويهاً بذكري، وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلاّ إمضاءه؛ وخلع علي بإيوانه، وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقصت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمّود، ووفّيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزغبني عنه جاه ولا سطوة، مسّوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحقَّ الضعيف من الحكمين، مُعْرِضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين؛ جانحاً إلى التثّبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل الشهادات؛ فقد كان البرّ منهم مختلطاً بالفاجر، والطيّب ملتبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة؛ فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء؛ والتوسّل لهم؛ فاعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفتُ على بعضِها فعاقبت فيه بموجع العِقَاب، ومؤلم النِكال؛ وتأدّى لعلمى الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشهادة؛ وكان منهم كتاب الدواوين القضاة، والتوقيع في مجالسهم، قد درّبوا على إملاء الدعاوي، وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها؛ فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويهٌ على القضاة بجاههم، يدّرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم؛ وقد يسلّط بعضٌ منهم قَلَمَهُ على العقود المُحْكَمَة، فيُوجِدُ السبيلَ إلى حلّها بوجة فِقهيّ، أو كتابيّ؛ ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاَه أو منحة؛ وخصوصاً في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه؛ فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضةً للبُطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعاً أو تمليكاً شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حمايةً عن التّلاعب؛ وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر في العقود والأملاك.
فعاملتُ الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم؛ ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الحيرة، لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم؛ وإذا فيهم أصاغر، بيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون؛ إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها، وتناولوها بالخزاف، وأجازوها من غير مرتّب ولا مستند للأهلية ولا مرشح؛ إذ الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مُرْسَلَ، يتجاذب كل الخصوم منها رَسَناً، ويتناول من حافته شِقّاً، يروم به الفتح على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المُفتي من ذلك ملءَ رضاه، وكَفاءَ أمنيته، متتبعاً إياه في شغب الخلاف؛ فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم؛ والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذَّر، وأهلية المفتي و شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي؛ فلا يكاد هذا المدى ينحسم، ولا الشغب ينقطع.
فصدعت في ذلك بالحق، وكبحتُ أعنّة أهل الهوى والجَهْل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب؛ يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك،ولا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب فى فنّ، قد اتخذوا الناس هزواً، وعقدوا المجالس مثلبةً للأعراض، ومأبنه للحرم؛ فارغمهم ذلك مني، وملأهم حسدا وحقداً عليّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه ليجيروا به على الله؛ وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرّض لأحكام الله بالجهل؛ فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيتُ حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة. وانطلقوا يراطؤن السفهاء من النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك، وقول الزور، ويبثّونه في الناس، ويدسّون إلى السلطان التظلّم مني فلا يصغي إليهم؛ وأَنا في ذلك مُحْتسِبٌ عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومُعْرِضٌ فيه عن الجاهلين، وماضٍ على سبيل سويّ من الصرامة، وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدَالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأعراض متى غمزني لامِسُها؛ ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه مني، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الآعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرّت، بناءً على أن الحاكم لا يتعيّن علبه الحكم مع وجود غيره، وهم يعملون أن قد تمالؤا عليه.
وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة، إذا علموا خلافها؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك: <<من قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له من النار>>.
فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقّها؛ والوفاء لها ولمن قلّدنيها، فأصبح الجميع علىّ ألبا، ولمن ينأدي بالتأفّف مني عوناً، وفي النكير عليّ أمّة؛ وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق، لاعتمادي على عِلْمي في الجَرْح، وهي قضية إجماع؛ وانطلقَتِ الألسنُ، وارتفع الصخبُ، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فتوقفت، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان؛ وجمع القضاة وأهل الفتياء في مجلس حفل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبين امرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله إرغاماً لهم، فغدوا على حَرَد قادرين، ودسوا لأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم إهمال جاههم، ورد شفاعتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إلي، تبعث الحليم، وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم علي، ويشربونهم البغضاء لي؛ والله مجازيهم وسائلهم.
فكثر الشغب علي من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه؛ فوقفت بين الورْد والصَدْر، وعلى صراط الرجاء واليأس؛ وعن قريب تداركني اللطف الربّاني، وشملتني نعمة السلطان- أيده الله- في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت- كما زعموا- مصطلحها؛ فردها إلى صاحبها الأول، وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد الأثر، مشيعاً من الكإفة بالأسف والدعاء وحميد الثناء؛ تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في بالعودة؛ ورَتَعْتُ فيما كنت راتعاً فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته، قانعا بالعافية التي سألها رسول الله من ربه، عاكفاً على تدريس علم، أو قراءة كتاب، أو أعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلاً من الله؛ قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته.
السفر لقضاء الحج
ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة؛ فودعت السلطان والأمراء، وزودوا وأعانوا فوق الكفاية. وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس؛ وركبت البحر من هنالك، عاشر الفطر، ووصلنا إلى اليَنْبُع لشهر، فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجة، فقضيت الفريضة في هذه السنة، ثم عدت إلى الينبع، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي. ونزلنا بساحل القصير، ثم بَذْرَقْنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياماً، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة تسعين؛ وقضيت حق السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبل ذلك (مني) بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه.
وكنت لما نزلت بالينبع، لقيت بها الفقيه الأديب المتفنن، أبا القاسم بن محمد ابن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفق سوق البلاغة، أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جدّه بالطُّوَيْجن، وقد قدم حاجاً، وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم، كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظي لديه، أبي عبد الله بن زمرك؛ خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوق، ويذكر بعهود الصحبة نصه:
سلوا البارق النجدي من علمي نجد تبسم فاستبكى جفوني من الوجد
أجاد ربوعي باللوى بورك اللوى وسح به صوب الغمائم من بعدي
ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر دعوها ترد هيما عطاشفا على نجد
ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا فإن زفير الشوق من مثلها يعدي
يراها الهوى بري القداح وخطها حروفا على صفح من القفر ممتد
عجبت لها أني تجاذبني الهوى وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي
لئن شاقها بين العذيب وبارق مياه بفيء الظل للبان والرند
فما شاقني إلا بدور خدورها وقد لحن يوم النفر في قصب ملد
فكم في قباب الحي من شمس كلة وفي فلك الأزرار من قمر سعد
وكم صارِم قد سُل من لَحظِ أحْوَرٍ وكم ذابلٍ قد هُزَّ من ناعم القَدِّ
خُذوا الحِذر من سُكَّان رامَة إِنْها ضعِيفات كرِّ اللَّحْظِ تَفتكُ بالأسْدِ
سِهام جُفونٍ عن قِسِّيَ حواجِبٍ يُصَابُ بها قَلبُ البَريء على عَمْدِ
وروض جَمال ضاعَ عَرْفُ نَسِيمِه وما ضاع غيرُ الوَرْد في صَفحة الخدِّ
ونرجِس لَخظٍ أرسل الدَّمعَ لؤْلؤاً فَرَشَّ بماءِ الوَرْد رَوضاً من الوَردِ
وكم غُصُنٍ قد عانَق الغُصْنَ مثلَهُ وكلٌّ على كلٍّ من الشًوْق يَسْتَعْدي
قبيحُ وداعُ قد جَلَا لعُيُونِنا محاسِنَ من روضِ الجمال بلا عَدِّ
رعَى الله لَيْلَى لو عَلمتُ طريقَها فَرَشْتُ لأخفاف المَطِيِّ به خَذي
وما شاقني والطَيْفُ يُرهِبُ أدْمُعى وَيسْبَح في بحرٍ من الئَيْل مزْبَذ
وقد سُلَّ خفَّاقُ الذُّؤابة بارقٌ كما سُلَّ لَمَّاع الصِّقالِ من الغِمْدِ
وهُزتْ مُحَلاَّةً يدُ الشوقِ في الدُّجى فَحُلَّ الذي أبْرَمْتُ للصَّبْرِ من عَقْدي
وأفلق خفَّاقُ الجوانح نسْمَةً تَنِتُم مع الإصباح خافقَة البُردِ
وهبَّ عليلٌ لَفَّ طيّ بُرُودِهِ أحاديثَ أهْداها إلى الغَور من نَجْدِ
سَوَى صادِحٍ في الأيكِ لم يَدْرِ ما الهَوَى ولكن دعا مِنِّي الشُجُونَ على وعدِ
فهَلْ عِندَ لَيْلَى نَعَّم الله لَيْلَها بانَّ جُفوني ما تَمَل من السهْدِ
وليلةَ إِذْ ولَّى الحَجِيجُ على مِنىً وفَت لي المُنَى منها بما شئتُ من قَصْدِ
فَقضيتُ منها-فوقَ ما احسَبُ –المُنَى وبُرْدُ عَفافي صانَه الله من بُردِ
وليْسَ سوى لَحظٍ خفيّ نُجِيلُهُ وشَكْوى كما آرفضق الجُمانُ من العِقْد
غَفَرْتُ لِدَهْري بعدها كلّ ما جَنى سِوَى ما جَنَى وفْدُ المَشِيبِ على فَوْدِي
* * * *
إليكَ أبا زيْد شَكاةً رفعْتُها وما أنتَ من عَمْرو لدَيّ ولا زَيْد
بعَيشِكَ خَبِّرني وما زلتَ مفْضِلا أعِندَك من شَوقٍ كمِثل الذي عِندي
فكمِ ثارَ بي شَوْق إليك مُبرِّحٌ فظَلّت يَدُ الأشواق تَقْدَح من زَنْدي
وصَفقَ حتى الرِّيحُ في لُمَمِ الرُّبَى وأشفَق حتى الطَفْلُ في كَبدِ المَهْدِ
يُقابِلُني منكَ الصَّباحُ بوَجْنَةٍ حَكَى شفقاً فيه الحَياءُ الذي تُبْدي
وتُوهِمُني الشمْسَ المنيرةَ غُرَّةٌ بوَجْهك صان الله وجهَكَ عن رَدِّ
مُحيَّاك أجْلَى في العُيون من الضُحى وذِكرُكَ أحْلَى في الشِّفاهِ من الشهْدِ
وما أنتَ إِلّاَ الشَّمسُ في عُلْو أُفْقِها تُفيدُك من قُرْب وتُلحَظُ من بُعْدِ
وفي عَمَةٍ من لا تَرَى الشَّمسَ عينُه وما نَفْعُ نُورِ الشَّمًسِ في الأعين الرُّمْدِ
مَن القَوْم صانوا المَجْدَ صَوْنَ عُيُونهِم كما قد أباحُوا المَال يُنْهَب لِلرِّفْدِ
إِذا ازدَحَمت يوْماً على المال أُسْرةٌ فما ازدَحمّوا إِلَّا مَوْرِد المَجْدِ
ومَهْما أغارُوا مُنجِدينَ صَرِيخَهم يَشُبُّونَ نارَ الحَرْبِ في الغَوْر والنَّجْد
ولم يَقْتَنُوا بَعْدَ البِناءِ ذَخِيرَة سِوَى الصَّارم المَصْقُول والصَافِنِ النَّهْدِ
وما اقتَسمَ الأنفالَ إِلآَ مُمَدَّحٌ بَلاَها بأعْرافِ المُطَهَّمَةِ الجُرْدِ
أتَنسَى ولا تَنْسَى ليالينَا التي خَلَسْنا بِهنَ العَيْشَ في جَنةِ الخُلْدِ
ركِبنا إلى اللَّذاتِ في طَلَق الصِّبا مَطايا اللَّيالي وادِعينَ إلى حَدّ
فإِن لم نَرِدْ فيها الكُؤُسَ فإنَنا ورَدْنا بها للأنْسِ مُسْتَعْذَبَ الوِرْدِ
أتيتُك في غَرْب وأنتَ رئيسُهُ وبابُكَ للأعْلاَم مُجْتَمَع الوَفْدِ
فآنسْتَ حتى ما شَكَوْتُ بِغُرْبَة ووالَيْت حتى لم أجِد مَضَضَ الفَقْدِ
وعُدت لقطْرِي شاكراً ما بَلَوْتُه مِنَ الخُلُق المَحمّودِ والحَسَبِ العِدّ
إلى أن أجَزْتَ البَحْر يا بَحْرُ نَحْوَنا وزُرتَ مَزار الغَيْثِ في عَقِب الجَهْد
ألذّ منَ النُّعْمَى على حالِ فاقَةٍ وأشْهَى من الوَصْلِ الهَنيً على صَدِّ
وإِن ساءني أن قَوَضَتْ رِحْلَك النوَى وعُوِّضتَ عَنا بالذَمِيلِ وبالوَخْدِ
لقَد سَرَّني أن لُحْت فيِ أفُقِ العُلا على الطَّائِر المَيْمُونِ والطَّالِعِ السَّعد
طَلَعتَ بأفْقِ الشَّرقِ نجْمَ هِدايةٍ فجئْت معَ الأنْوار فيه على وعد
* * * *