الفارابـي
870- 950 م
هو أبو نصر محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي. ولد في مدينة فاراب وإليها انتسب. لا يُعرفَ شيئًا مهماً عن طفولته وشبابه، غير أنّه في حدود الأربعين من سنيه وفي عهد الخليفة المقتدر، وفد إلى بغداد للإتصال بأئمة الحكمة والتزيّد من العلم، فانصرف إلى المطارحات اللّغوية مع ابن السراج، وإلى دراسة المنطق على أبي بشر متى بن يونس. وبعد أن أقام على ذلك بُرهة، ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضًا، ثم قفل راجعًا إلى بغداد مدينة السّلام.
أكب الفارابي في بغداد على مطالعة الفلسفة واستخراج معانيها، فتناول بالدّرس والشرح والتعليق جميع ما وصل إليه من كتب أرسطو. وقد وُجدَ كتاب النّفس للمعلم الأول وعليه بخط أبي نصر: "إني قرأت هذا الكتاب مئة مرّةٍ".
إن أهمّ ما يتميّز به الفارابي ثقافته الواسعة ونزعته إلى الزهد والتصوّف.
أما ثقافته فتظهر في هذه الطائفة الكبرى من الكتب والرسائل التي ذُكِرَت له، وتدور موضوعاتها على مختلف العلوم المعروفة آنذاك، من الطبيعية وما يتفرّع عنها، إلى الإلهيّات وعلوم الدّين والاجتماع، إلى الموسيقى. وقد رُوِيَ أنّه اخترع الآلة الموسيقية المعروفة بالقانون ووضع كتابا في الموسيقى اسمه: "كتاب الموسيقى الكبير". ويَذكُرُ ابن خلكان أنّ الفارابي كان يتّقن سبعين لسانًا، وعلى الرغم من المبالغة في هذا الرقم، فإنه دليل على اتساع هذه المعرفة.
أمّا نزعة الفارابي الصوفية فبارزة في كل أطوار حياته بشكل زهدٍ بالدنيا وانصرافٍ شديدٍ عن مُتعتها في المال والزوج والولد.
وضع الفارابي طائفةً جليلةً من الكتب والرسائل، ضاع أكثرها، وما وصلنا إلا القليل. ولم يُقدّر لهذه الكتب أن تنشر في الشرق والغرب انتشار كتب ابن سينا وابن رشد، فظلّت مجهولةً إلا من خاصة المُعْتَنين بعلوم الفلسفة. حتى إذا كان القرن التاسع عشر، قام المستشرق ديترشي بجمع ما أمكنه من مخطوطاتها فدرسها وقدّم لها وترجم بعضها إلى الألمانية ونشرها في سنتي 1890 و 1895 في مدينة لَيْدِن بهولندا؛ بعض هذه الكتب شروحٌ وبعضها تصانيف.
من شروحه لأرسطو: "البرهان"، "العبارة"، "القياس"، "الخطابة"، "الجدل"، "المقوّلات وسائر كتب المنطق"، "السماء والعالم"، "السماع الطبيعي"، "الآثار العلوية"، "الأخلاق". بالإضافة إلى شرح كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب إيساغوجي أو "المدخل إلى علم المنطق" لفرفوريوس الصوري، وسواهما.
ومن تصانيفه: إحصاء العلوم، كتاب في الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو طاليس، مقالة في معاني العقل، آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها ، كتاب السياسات المدنية، تحصيل السعادة، التعليقات، عيون المسائل، مسائل فلسفية وأجوبة عنها. ومجموعة واسعة من الرسائل والردود، منها رسالة في ماهية النفس، الرّد على الرازي، والرّد على الراوندي.
أمّا في الموسيقى، فلهُ المؤلّفات التّالية: "كتاب الموسيقى الكبير"، "كتاب إحصاء العلوم" الذّي يتضمّن جزءاً خاصاً بعلم الموسيقى. والواضح أنّ الكتاب الأوّل -أيّ كتاب الموسيقى الكبير- هو أهمّ كتبه الموسيقيّة، وهو الذّي بقي موجوداً حتّى الوقت الحاضر وأمكن تحقيقه وطبعه وترجمته إلى اللّغات الأوروبيّة. ولقد اهتمّ الباجثون في أوروبّا والبلاد العربية بهذا الكتاب لأسبابٍ منها أنّه الكتاب الوحيد للفارابي الموجود حالياً في علم الموسيقى، ولأنّه من أهمّ كتب الموسيقى في تراثنا العربي، ولأنّه يضمّ معلومات قيّمة تتناول جوانب الموسيقى العربية.
إنّ دراسة مؤلّفات الفارابي، لا سيما كتاب الموسيقى الكبير، تعطينا صورة مُتكاملة عن البُعد الفكري عند هذا النّابغة ومفهومه للموسيقى.
يُشير الفارابي إلى أنّ كلمة موسيقى في استعمالات اللّغة العادية تدلّ على الألحان؛ واللّحن هو "كلّ مجموعةٍ من النّغم، رُتّبت ترتيباً مُحّدداً". لكنّ الموسيقى من حيث هي صناعة أو فن شامل تشتمل على الألحان والمبادىء التّي بها تلتئمُ وبها تصير أكمل وأجود. وليست صناعة الموسيقى إذاً صناعة ألحان فحسب، وإنّما تشتملُ أيضًا على الأسس النّظرية التّي تُبنى عليها جودة الألحان وكمالها.
يلجأ الفارابي في التّفريع الذّي يغلُب على إحصاء العلوم إلى قسمة صناعة الموسيقى إلى صناعتين: الموسيقى النّظرية والموسيقى العمليّة. فالموسيقى النّظريّة هي "هيئة تنطقُ عالمه بالألحان ولواحقها عن تصوّراتٍ صادقةٍ سابقةٍ خاصّةٍ في النّفس". أمّا الموسيقى العمليّة "فهي كما توحي التّسمية إحداث الألحان بأدائها أو صياغتها".
ثمّ يوضح الفارابي العلاقة التّي تجمع بين فنيّ الموسيقى النّظري والعملي. فهي علاقة وثيقة مزدوجة قوامها التّحليل والتّركيب، وهي تماثل الصّلة التّي تربط بين العلم الطّبيعي وعلم النّجوم.
ويستطردُ الفارابي إلى إعطاء نظريته في المقارنة بين موسيقى الإنسان وموسيقى الطّبيعة، فقال: "استحدثَ الإنسان الموسيقى تحقيقاً وإيفاءً لفطرته. إنّها الفطرة المُركّزة في جبلة الإنسان والتّي تنتظم، فيما تنتظم، الفطرة الحيوانية التّي من خصائصها التّصويت تعبيراً عن أحوالها اللّذيذة والمؤلمة".
أمّا تأثير الموسيقى بالنّفس، فيقسم الفارابي ذلك إلى ثلاثة أنواع: "فهناك صنف من الموسيقى يُكسِب النّفس لذّة وراحة فحسب ويُسمّيها الألحان الملذة؛ وهناك نوع ثانٍ من الموسيقى يدعوه الفارابي بالألحان المخيّلة لأنّه يُحدِث في نفس الإنسان تخيّلات وتصوّرات ، مثل ما تفعل التّزاويق والتّماثيل المحسوسة بالبصر؛ أّما النّوع الثّالث من الموسيقى، فيستأثر باهتمام الفارابي ومناقشته في عدّة مواضيع. إنّه الألحان الإنفعالية، فهي قد تزيل الإنفعال أو تنقصه لأنّ الإنفعال من شأنه أن يزول إذا بلغ أقصى غاياته".
وهناك معايير للجمال في الموسيقى عند الفارابي. والمبدأ الذّي يُسيطر على بحثه هو أنّ الذّوق الفنّي يتغيّر مع تعاقب الأجيال، ومن ثمّ فهو لا يتمتّع بخاصّية الثّبات التّي تجعله يخضع للبحث العقلي: "فليس سبيل الطّبيعة من الألحان سبيل الشّرائع والسّنن التّي رُبّما حمل النّاس عليها أو أكثرهم في بعض الأزمان، فيتبع بعضهم فيها بعضًا، فيستحسن على سبيل ما تستحسنُ المألوف من الأمور. غير أنّ ما هذه سبيله من مستحسنٍ أو مستقبحٍ لا يراعي كيفما اتُّفِقَت".