من أروع ما كتب الدكتور - احمد راسم النفيس
الشيعة والسنة وإشكالية الحكم
دكتور أحمد راسم النفيس
لم يكن بروز إشكالية العلاقة بين الشيعة والسنة وقضية الحكم متوقفا على سقوط النظام الصدامي وتشكيل نظام سياسي جديد منبثق من نتائج الانتخابات التي جرت في العراق أيا كان رأي الب&Uacuي البعض في صحة هذه الانتخابات التي جرت تحت الاحتلال.
إنها ليست إشكالية واحدة فهناك العديد من الإشكاليات من بينها من يمثل الشيعة والسنة وموقف النظام العربي الرسمي من الديمقراطية والانتخابات (تحت أو فوق الاحتلال) وأخيرا وليس آخرا الموقف من أمريكا وإسرائيل.
يعرف الجميع أن إيران الشاه صديقة أمريكا وإسرائيل كانت حليفا وثيقا لأغلب النظم العربية باستثناء النظام الناصري ولم يكن هناك من يتحدث عن تشيعها كما يجري الآن.
وهناك إشكالية متعلقة بالوضع العراقي المعاصر تتمثل في حالة الاهتمام المفاجئ بتفاصيل ما يجري في هذا البلد رغم أن أحدا لم يكن ليهتم بما يجري من مجازر وتصفيات وصلت لحد استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد وعمليات التهجير الجماعي التي تعرضت لها قطاعات واسعة من العراقيين كما أننا لم نسمع بأي تغطية صحفية مباشرة لهذه الأحداث المؤسفة خارج وجهة النظر الرسمية لنظام البعث الذي حكم هذا البلد بالحديد والنار منذ ستينات القرن الماضي.
نلفت انتباه هؤلاء السادة أيضا أن مآسي العراق لم تبدأ عشية التاسع من أبريل عام 2003 وأن قرارات مجلس الأمن التي كبلت العراق ورسمت مصيره السياسي صدرت تحت لائحة (الحالة القائمة بين العراق والكويت) ومن بينها القرار 1454 الصادر في ديسمبر 2002 والقرار 1546 الصادر في يونية 2004.
وهناك أيضا حالة استهسال إلقاء الكلام على عواهنه عند الحديث عن الوضع في هذا البلد المنكوب منذ عشرات السنين وتجاهل التقارير التي أصدرتها المنظمات الدولية مثل (منظمة مراقبة حقوق الإنسان) و(مجموعة الأزمات الدولية) التي قاربت الوضع في هذا البلد مقاربة بعيدة عن حالة التهييج المذهبي التي أصبحت عادة وعبادة يمارسها البعض من دون خجل ولا ورع ولا حياء.
وأخيرا تبرز إشكالية: من يمثل أهل السنة ويتحدث باسمهم بعد سقوط الخلافة العثمانية وبروز التيار الوهابي الذي يتصرف باعتباره الممثل الشرعي والوحيد لأهل السنة بل وللإسلام والمسلمين ويسعى لإقصاء المعتدلين والانفراد بالقرار.
سلطة المذهب ومذهب السلطة
يتعين على الباحث في ملف النزاع المذهبي أن يحدد رؤيته لطبيعة ونشأة هذا النزاع.
هل هو نزاع فكري عقائدي قاد إلى صراع سياسي أم العكس؟!.
هل انقسم المسلمون في البداية إلى فريق سني وآخر شيعي وبدأ كل منهما في محاولة تعزيز موقعه عبر شن الحرب على الطرف المقابل أم أنهم انقسموا في البداية انقساما ذي شكل سياسي ثم بدأ بعض الأفرقاء في تبرير موقفه وصوغه مذهبيا بحيث يمكن توظيف هذه الصياغات والشعارات لخدمة موقفه السياسي؟؟!!.
هل انطلقت (ثورة يوليو) من المبادئ الست أم أنها كانت حركة عسكرية انقلبت فحكمت وبطشت ثم بحثت لها عن نظرية فكانت المبادئ الستة والميثاق ثم الاشتراكية؟!.
في رأينا ومن خلال قرائتنا للتاريخ يمكننا القول أن الثاني هو الصحيح.
فالفريق السني (إن صح كونه فريقا واحدا) مر بأدوار وأطوار فكرية وفقهية يناقض بعضها بعضا.
الرؤية الفقهية الأموية اعتمدت نظرية (الإمامة في قريش) دعما لشرعيتها ووجودها ثم جاء العباسيون يرفعون شعار الإمامة في بني هاشم ثم جاء الأتراك العثمانيون يبحثون عن شرعية فوجدوها في المذهب الحنفي الذي يجيز إمامة غير القرشي.
وبين هذه الأطوار والأدوار حكم العبيد المماليك وتحكموا من دون أن يكلفوا أنفسهم مؤنة البحث عن هكذا شرعية إلا أنهم لم يمانعوا أن يضموا إلى دولتهم (خليفة عباسي تائه) ويجعلوا من القاهرة عاصمة لهذا الخليفة مشكوك النسب.
المبدأ الأهم في الشرعية السياسية في الدنيا بأسرها هو مبدأ الاختيار القائم على المفاضلة بين مرشح أو أكثر وهو مبدأ قديم قدم التاريخ الإنساني إلا أن (المسلمين) لم يعترفوا أصلا بمبدأ المفاضلة وشرعنوا مبدأ القهر والغلبة كأمر واقع لا يمكن دفعه, وجعلوه طريقا ثابتا وموصلا لسلطة قائمة على الشرع والدين فصار القهر والظلم دينا وصار الدين ظلما وقهرا!!.
الشرعية السياسية (الإسلامية) قامت على مبدأ (أمير المؤمنين هذا أي معاوية فإن هلك فهذا أي يزيد وأشار إليه بسيفه ومن أبى فهذا) ورفع سيفه فوق الرؤوس والآن فوق الصناديق!!.
ولكي تكتمل الصورة وفقا لرؤية هؤلاء جرى تثبيت مبدأ غير مكتوب لكنه أقوى من الدستور الإنجليزي ألا وهو إقصاء كل من ينتمي لأهل البيت عليهم السلام برابطة الدم والنسب أو برابطة الولاء وهو ما يعرف بالتشيع من حق نيل السلطة بأي من الوسائل المشار إليها آنفا وأضيف إليها الآن ولو بالانتخابات!!.
إنه قانون الغلبة والإقصاء.......
الغلبة بالسيف لمن لم يرض بالوعد ولم يرتدع بالوعيد..
والإقصاء الدائم لمن توافرت فيهم الشروط المشار إليها آنفا.
طبعا لا يعني هذا أنه لم يكن هناك استثناءات أو خرق لهذا القانون.
أحد الاستثناءات المعاصرة هي الحالة اللبنانية التي قامت على مبدأ التقاسم الطائفي الذي أعطى الشيعة حصة مساوية من ناحية الكم وليس الكيف للسنة.
ولكن (الفضل) في هذا يرجع لخالتي فرنسا!!.
حالة استثنائية معاكسة هي الحالة العراقية والتي ضمنت للسنة حصة ثابتة من السلطة وفقا لاتفاق غير مكتوب وهو ما أسست له أمنا أمريكا برضا وموافقة النظام العربي الرسمي.
في التاريخ نجد حالتين.
الأولى هي الحالة الإيرانية أو الدولة الصفوية التي تبنى مؤسسها منذ البدء المذهب الشيعي الإمامي ونجح في إقامة دولته وحمايتها من محاولات الاقتلاع العثمانية.
ولمن لا يعرف فإن الصفويين هم من الأتراك وليسوا من الفرس أي أن الصراع الصفوي العثماني كان صراعا تركياً تركياً لا ناقة للعرب فيه ولا جمل!!.
كانت فاتحة حروب العثمانيين ضد الصفويين هي الغزوة التي شنها السلطان سليم خان بعد انقلابه على أبيه السلطان بايزيد.
ولإيجاد مبرر للحرب أمر سليم بحصر الشيعة الأتراك ثم قام بإبادة أكثر من أربعين ألفا منهم وهي المذبحة التي شبهها محمد فريد في كتابه عن الدولة العثمانية بالمذبحة التي تعرض لها البروتستانت في باريس يوم 24 أغسطس سنة 1572 المشهورة بمذبحة سانت برتليمي[1].
يقول الدكتور محمد عبد اللطيف عوض: لقد وصل خطر الزحف الشيعي في شرق الأناضول حدا لا يمكن السكوت عليه حيث وصلت التقارير إلى سليم خان التي تقول (إن المبتدعين من الصوفية والشيعة قد استفحل أمرهم وزاد عددهم)..
لاحظ!!!.
وما إن تولى السلطان سليم الحكم حتى بدأ تعبئة قواته للحرب ضد الشاه إسماعيل الصفوي وكان للتعبئة المعنوية أهمية كبرى إذ أن إعلان هذه الحرب لم يكن مقبولا لدى كثير من الأتراك حيث عارضها الكثير منهم.
انبرى علماء الدولة العثمانية للدفاع عن السنة وتوضيح منهجها وكشف أباطيل غلاة الشيعة ومروقهم عن الإسلام فكتب ابن كمال باشا رسالة أورد فيها رأيه مدعما بالأدلة وقرر أن التشيع مخالفة صريحة لجماعة المسلمين وأن قتال الشيعة جهاد وحربهم غزوة.
كان من الضروري أن يقوم السلطان بحملة تطهير واسعة قبل أن يمضي للقتال حتى لا يطعن في الظهر واستصدر فتوى بوجوب قتال الشاه إسماعيل كدأب العثمانيين قبل الخروج إلى أي حرب.
وفي أثناء الحرب تمرد بعض الجنود الأتراك فخطب فيهم سليم خان مذكرا إياهم أنهم إنما جاءوا لقتال المرتدين عن الدين حتى يفيئوا إلى أمر الله فمن تخاذل أو ارتد فهو في حكم المرتد أيضا.
التقى الجمعان في وادي جالديران شمال شرقي آذربيجان في رجب سنة 920 هـ/ 1514 مـ وهزم الجيش الصفوي هزيمة قاسية[2].
ولأن التاريخ يعيد نفسه فلا بأس أن ننوه إلى أن وجود الشيعة في تلك المناطق التركمانية كان أقدم من وجود الدولة الصفوية حيث كان (هناك عدد من القبائل التركمانية الشيعية والواعدة بالتشيع)[3].
ما إن فرغ سليم خان من حربه الأولى مع الشاه إسماعيل حتى قام بغزو مصر كما هو معلوم وهي ملاحظة قد تكون مفيدة لأولئك الذين يطبلون ويزمرون ضد (التبشير الشيعي) الآن متجاهلين أن السلطة هي السلطة وأن الراغبين في الغزو والتوسع يفعلون هذا لا من أجل دين أو مذهب بل من أجل الاستيلاء على كل ما يمكن لهم الاستيلاء عليه
يقول الكاتب عبد اللطيف هريدي: أطلت الفتن الباطنية برأسها والجيوش العثمانية في خنادقها في وادي موهاج بالمجر في شهر ذي القعدة من عام 933هـ وقد بدأت الفتنة بواقعة عادية إذ تقدم شخصان بشكوى إلى قاضي السنجق فلم يحسن القاضي استقبالهما وأساء إلى أحدهما (؟!) فاكفهر الجو وخرج رجل شيعي يعرف بذي النون فرفع يده وإذا بحشود ضخمة تتحلق حوله وخرجت جماعات العلويين من كل مكان لتعلن تمردها على الوالي ومن الواضح أن النية كانت مبيتة لإثارة الفتنة لأن الشاكيين وكما يبدو من اسميهما كانا من الشيعة كما كانت هناك فتن أخرى في أماكن متفرقة غطت جنوب شرق ألأناضول ولم تتمكن الحكومة من إخماد هذه الفتن إلا بشق الأنفس.
كما كانت هناك الفتنة التي أشعلها الشيخ البكتاشي العلوي اسكندر قلندر جلبي والتف حوله ما يربو على ثلاثين ألف علوي.
وكأي من الفتن كان لها عوامل داخلية إلا أن التوقيت واتفاق كل هذه الزعامات العلوية في وقت واحد يلقي بظلال صفوية على هذه الأحداث[4].
من الطبيعي أن يرى هذا الصنف من الكتبة الذين تربوا على ثقافة عبادة السلطة في كل ثورة أو تمرد داخلي على الظلم والقهر مؤامرة خارجية صفوي وما أشبه الليلة بالبارحة.
أما الدليل الأكبر على التآمر الصفوي الإيراني هو أن الشاكيين وكما يبدو من اسميهما كانا من الشيعة وكفى بذلك دليلا وبرهانا على وجود هذه المؤامرة!!.
مات سليم خان يوم 9 شوال سنة 926 هـ, 22 سبتمبر 1520م في السنة التاسعة من حكمه والحادية والخمسين من عمره وكانت مدة حكمه أيام فتوحات خارجية وتنظيمات داخلية إلا أنه كان ميالا لسفك الدماء فقتل سبعة من وزرائه لأوهى الأسباب وكان كل وزير مهددا بالقتل لأقل هفوة حتى صار يدعى على من يرام موته بأن يصبح وزيرا له[5].
سليمان خان الأول القانوني
حكم سليمان خان الدولة العثمانية لمدة 64 سنة ومات عن عمر يناهز الرابعة والسبعين.
لم يكن لسلاطين بني عثمان من همة إلا الغزو والقتل حيث قام سليمان الإرهابي اللا قانوني بغزو إيران واحتلال تبريز سنة 1533 مـ ثم تحرك منها ليحتل بغداد سنة 1534 مـ والهدف هو الهيمنة واستعراض القوة وقتل الشيعة المرتدين وهي الحروب التي دامت لعدة قرون كرا وفرا بين العثمانيين والصفويين ويكفي أن ننوه إلى واقعة الاتفاق بين الأتراك والروس على تقاسم بلاد فارس سنة 1724مـ.
فعندما تولى داماد إبراهيم باشا منصب الصدر الأعظم سنة 1718 أراد أن يستعيض عما فقدته الدولة من ولايات بفتح بلاد جديدة في آسيا وقد أتيحت له الفرصة بسبب الاضطرابات الداخلية ببلاد العجم وتقدم القوات الروسية لاحتلال طاجيكستان وكافة سواحل بحر الخزر الغربية في حين تقدم هو لاحتلال أرمينيا وبلاد الكرج وكادت الحرب تشتعل بين الترك والروس فاتفق الطرفان على أن يتملك كل طرف منهما ما احتله من البلاد وأبرمت معاهدة بين الطرفين بذلك في يونيو سنة 1724.
لم يقبل الفرس بذلك وأعلنوا المقاومة ولكنهم كانوا في حالة ضعف فلم يتمكنوا من إجلاء المحتلين الأتراك والروس إلى عام 1727 حيث طلب الشاه طهماسب من العثمانيين استعادة ما احتل من بلاده[6].
العثمانيون وإحراق الشيعة بالنار
يروي ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في أخبار سنة 944 هـ 1538 مـ: وفيها قتل القاضي شمس الدين محمد بن يوسف الدمشقي الحنفي الذي ناب في القضاء عن قاضي القضاة ابن الشحنة وعن قاضي القضاة يونس بدمشق ثم ثبت عليه وعلى رجل يقال له حسين البقسماطي عند قاضي دمشق أنهما رافضيان فحرقا تحت قلعة دمشق بعد أن ربطت رقابهما وأيديهما وأرجلهما في أوتاد وألقى عليهما القنب والبواري والحطب ثم أطلقت النار عليهما حتى صارا رمادا ثم ألقى رمادهما في بردى وكان ذلك يوم الثلاثاء تاسع رجب قال ابنطولون وسئل الشيخ قطب الدين بن سلطان مفتي الحنفية عن قتلهما فقال لا يجوز في الشرع بل يستتابان!!.
الاستثناء الثاني: الحالة المصرية
الحديث عن الدولة الفاطمية حديث يثير الشجون والأحزان.
فمصر التي كانت في العصر الفاطمي دولة عظمى صاحبة حضارة ويحسب لها ألف حساب تحولت بفضل الغز الأيوبيين إلى خرابة ومباءة يحكمها العبيد المماليك الذين وصفهم المقريزي بقوله (وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرا وأشحهم نفسا وأجهلهم بأمر الدنيا وأكثرهم إعراضا عن الدين ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب, لا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات بسوء إبالة الحكام وشدة عبث الولاة وسوء تصرف أولي الأمر حتى أنه ما من شهر إلا ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فرطه).
لم يتوان العباسيون عن شن الحروب المتواصلة من أجل القضاء على الدولة الفاطمية من دون ذنب ارتكبه الفاطميون إلا انتماؤهم لمدرسة أهل البيت وكان آخر ما اقترفته أياديهم الآثمة هو انقلاب يوسف بن أيوب المسمى بصلاح الدين والذي لم يكتف بتغيير النظام السياسي وإنما قام بتخريب وتدمير كل ما أنجزته هذه الدولة وما قدمته من عطاء حضاري
الآثار الكارثية لهذه الحروب
يتباهى أصحاب العقل الطائفي المشوه بالانتصار الذي حققه السيد صلاح على الفاطميين وأنه كان نجما بارزا من نجوم الإبادة المذهبية والحضارية.
فات القوم الذين لم يعتادوا قراءة التاريخ قراءة طولية (قراءة الحدث وتداعياته) أن القضاء على الدولة الفاطمية جر وراءه سلسلة من التداعيات الكارثية التي تركت بصماتها على تاريخ المسلمين من يومها وصولا إلى الواقع المعاصر.