مروان كنفانى السياسى والمفكرِ كثيرون يعرفون أن مروان كنفانى كان لاعبا فى النادى الأهلى وحارسا لمرماه لنحو عشر سنوات، وكثيرون يعرفون أنه من الفلسطينيين الذين لهم باع طويل فى السياسة، واقترب لفترة طويلة من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وعمل معه مستشارا سياسيا، وكان قريبا منه فى التفاوض مع إسرائيل وصولا لاتفاق أوسلو والإعلان عن السلطة الفلسطينية، ثم استشهاده فى نوفمبر 2004.
لكن قليلين يعرفون أنه مثقف من طراز رفيع ومفكر كبير، وله نظرة عميقة لكثير من تفاصيل القضية الفلسطينية وآأفاقها الراهنة والمستقبلية، لذلك عندما تقرأ كتابيه، سنوات الأمل، وللفلسطينيين فقط.. جدلية النجاح والفشل، تجد نفسك أمام نماذج حية لا تتغير تقريبا، ربما تتغير أسماء الشخصيات، لكن غالبية التفاعلات والمواقف والحسابات والتقديرات تتكرر أمام عينيك، وهو ما يمكن وصفه بـ «إدمان الفشل».
سنوات الأمل، التى تحدث عنها كنفانى فى كتابه الأول، تحولت إلى سراب، بسبب الخلافات المتجذرة بين القوى الفلسطينية، وهو ما تكشفت تجلياته فى كتابه الثانى (جدلية النجاح والفشل)، الذى قدم تفسيرا، مباشرا أو ضمنيا، لسؤالين فى غاية الأهمية، الأول: لماذا تعثرت القضية الفلسطينية؟ والثانى ما هو مصير المصالحة الفلسطينية ؟
قد تكون إجابة السؤال الأول معروفة، أو يمكن الاجتهاد فى وضع نقاط محددة لأبرز الملامح التى تفسر أسرار كل هذا الاخفاق، وبالطبع الإجابة تتوقف حسب الخندق الذى يقف فيه كل شخص، ومروحته السياسية والثقافية ورؤيته الشخصية، لكن عند كنفانى خيطا رفيعا يركز على عدم التوافق حول برنامج وطنى واحد، كمبرر لإدمان الفشل، وهو محق تماما، ومن يتتبع بدقة التطورات على مدى نحو قرن سيصل بسهولة إلى هذه النتيجة.
فى إجابته عن السؤال الثاني، كان جريئا للغاية، جرأة المثقف والسياسى والعالم بخبايا أمور كثيرة، ولم ينحز، مثل كثير من الشخصيات الذين توقفوا عند هذه القضية، إلى فصيل أو حركة فلسطينية بعينها، بل أدان الجميع وكال النقد للجميع، وأنصف من يستحقون الانصاف، ووضع يديه على أهم عقدة، وتتعلق بتشبث كل من حركتى فتح وحماس بالسلطة والنفوذ والاستحواذ وفرض الهيمنة، حتى لو أدى ذلك إلى التأثير سلبيا على القضية الفلسطينية.
مفتاح الحل بالنسبة للمصالحة واضح ومحدد وعنوانه معروف عند كنفانى وغيره من الفلسطينيين المخلصين، وهو التخلى عن النظرة الشخصية وتغليب الأبعاد الوطنية، والالتفاف حول برنامج وطنى لا فصائلي، والتفاهم على رؤية سياسية واحدة، لا رؤيتين وربما ثلاث.
التشدق بالحل السياسى أو التمسك بسلاح المقاومة مثلا، يخفى كلاهما أشياء أخري، تصل إلى حد التفاهم على قواعد اللعبة مع من بطشوا بالقضية الفلسطينية، والذهب الذى يلمع على السطح من هذا الطرف أو ذاك قد يخفى حديدا صدئا عندهما.
جميع جولات المصالحة التى جرت فى مصر أو غيرها، لم تستطع تحقيق هذه المعادلة، لذلك لم تتمكن من وضع حد للخلاف بين فتح وحماس، وفى رأى كنفانى أن الهوة سوف تظل بعيدة، مهما تكن الجهود المخلصة التى تبذلها مصر، طالما بقى كل طرف قابضا على جمرة موقفه.
إمعان النظر فى الطريقة التى تتعامل بها كل حركة مع المصالحة، يعزز القناعات التى ترسخت عند السيد مروان كنفاني، وهى لا مفر من البرنامج الواحد وادراك طبيعة التحولات الإقليمية والدولية ووضع إسرائيل فى القلب منها، وهو تقدير اكتسبه من قراءته الموضوعية للأحداث وتوازنات القوى الرئيسية والجهات الفاعلة فى العمق، كذلك الدوائر الموجودة على الهامش وتريد الإيحاء بأنها فى المركز.
من يمعن قراءة الملفات التى فجرها كنفانى فى كتابيه، يتأكد أنه أمام مفكر حقيقي، درس وعايش القضية الفلسطينية من جوانب مختلفة وتوصل إلى استخلاصات عملية، ومشكلته الأساسية أنه يحب الابتعاد عن الأضواء، ويريد الاحتفاظ بمسافة بينه وبين الإعلام، مع أنه يمتلك المقومات اللازمة للتعامل معه باقتدار.
فى الندوة التى نظمها معرض القاهرة الدولى للكتاب وأدارها الدكتور أحمد فؤاد أنور، السبت الماضي، كنت المعقب الوحيد على كتابه «جدلية النجاح والفشل»، ودار نقاش طويل بيننا حول مضمون الكتاب، ألخصه فى خمس نقاط أساسية.
الأولي: أن الكتاب تضمن عنوانا تمهيديا «عن الفلسطينيين فقط»، بينما أرى أنه عن العرب أيضا، لأن القضية الفلسطينية، كانت وما زالت أم القضايا، ويصعب محوها من الذاكرة والوجدان العربيين، وما تطرق إليه الكتاب يخصنا جميعا ويكشف عوراتنا وأزماتنا السياسية، كما أن هناك دولا عربية تفاعلت مع هذه القضية، مصر فى مقدمتها، باعتبارها جزءا من أمنها القومي، والمحتوى العام للكتاب لم يغفل الفضاء العربى ومؤثراته، السلبية والإيجابية، على القضية الفلسطينية.
الثانية: يبدو أن هناك ارتياحا عاما للانقسام، من قبل فتح وحماس والولايات المتحدة وإسرائيل، وبعض القوى الإقليمية التى تجد ضالتها فى استمراره، لأنه يمكنها من الاقتراب من مفاصل سياسية لم تكن تستطيع الاقتراب منها فى حال الإصرار على التوافق الفلسطيني، وهذه الجهات تلعب أدوارا مختلفة لتغذية الانقسام وتخريب محاولات القضاء عليه.
الثالثة: صعوبة تمرير صفقة القرن، ومع أن قرار الرئيس دونالد ترامب بشأن الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمركية إليها، لقى إدانات واسعة وبدا كأنه صدر لمزيد من التفجير السياسي، غير أن كنفانى يرى أن نص القرار يخفى أكثر مما يعلن، فهو لم يتحدث عن القدس الموحدة، وهى ثغرة يمكن أن تنفذ منها واشنطن لامتصاص الغضب الذى خلفه قرار ترامب، وتبنى عليه خطتها لصفقة العصر.
المشكلة ليست فى التفسير، لكن فى قدرة الولايات المتحدة على تمرير مشروع مكتمل للتسوية السياسية، سوف يكون مرفوضا من الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي، لأنه يتطلب تقديم تنازلات قاسية، يصعب قبولها، لأنها تمس ثوابت من الصعوبة التخلى عنها، بالتالى فالصفقة معرضة للفشل قبل أن تنضج ملامحها النهائية، والحديث عنها من وراء الكواليس ومحاولة تذليل العقبات عبر تقديم إغراءات لن يكفى لتمريرها، فلا تزال البيئتان الفلسطينية والإسرائيلية غير قادرتين على تكرار تجارب التسوية المستحيلة.
الرابعة: تتعلق فكرة الزج بالتيار الإسلامى فى الانتخابات، ويؤكد مروان كنفانى أنها بدأت مع ضغط الولايات المتحدة لإجراء انتخابات تشارك فيها حماس، وهو ما رفضه طويلا الرئيس الراحل أبوعمار، وقبله الرئيس الحالى محمود عباس، وهى الانتخابات التى أجريت عام 2006، وحققت فيها حماس تفوقا لافتا، وكانت نقطة تحول مفصلية فى عمر القضية الفلسطينية، ومقدمة لتكريس الانقسام.
هذا الاتجاه يُبين لنا لأى درجة تتكاتف وتتضافر الخيوط بين حماس وبعض القوى الدولية، ورغم مرارة التجربة التى تخوضها الحركة منذ عشر سنوات، غير أنها خلفت وراءها نتائج جيدة بالنسبة لواشنطن جعلتها تتجرأ وتؤيد، وربما تحرك، ثورات الربيع العربى من خلف ستار، وتشجع على ضرورة وصول الإسلاميين للسلطة فى دول عربية عديدة.
النقطة الخامسة: تتعلق بوفاة أبوعمار، والتى تحدث عنها كنفانى فى كتابه الأول (سنوات الأمل) دون أن يقطع بطبيعة الدور المادى الذى لعبته إسرائيل فى استشهاده، لكن لم يبرئها واعتبرها مسئولة عن وفاته، وكانت لها محاولات سابقة لاستهدافه، وحكى لى السيد مروان بعض التفاصيل لكن لم استأذنه فى نشرها.
التعامل المباشر مع مروان كنفاني، عزز يقينى بأننى أمام سياسى ومفكر، لديه الكثير من التفاصيل المهمة عن القضية الفلسطينية ولو فتح صندوق معلوماته سوف نتمكن من فهم الكثير من الأبعاد التى غابت عنا طويلا، وما زلنا ننتظر منه قراءات مستفيضة للمستقبل عن آليات الخروج من المأزق الفلسطينى الصعب.