(( صفحات من تاريخ الإسلام ))

صفحات من تاريخ الإسلام

رحلة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الذي عرف بالداخل إلى الأندلس استغرقت ست سنوات، فلم تكن مجرد هروب من الجيوش العباسية التي كانت تسعى للقضاء على جميع أفراد الأسرة الأموية، ولكنها كانت بناء لشبكة من العلاقات والتحالفات المهمة التي مكنته من دخول الأندلس، ولقب الداخل كان لأن عبد الرحمن بن معاوية هو أول أموي يدخل الأندلس، ولم تكن مهمته سهلة على الإطلاق، فالرجل كان شخصية غير مرغوب في وجودها بالأندلس، خاصة أن أميرها يوسف الفهري اعتبرها مملكة خاصة به بعد سقوط الأمويين، وعدم قدرة العباسيين على فرض سيطرتهم عليها، كما أن رأس الداخل أو أموي آخر يحاول دخول الأندلس كانت بلا ثمن.
بدأت الخلافة العباسية بمجزرة واسعة ارتكبها أبو العباس السفاح الخليفة العباسي الأول وراح ضحيتها الكثير من أبناء البيت الأموي، وكان الأمويون المتبقون مطلوبون في كل مكان، وهو الأمر الذي جعل رحلة الداخل إلى الأندلس تمضي في دروب حذرة تعتمد على التخفي وتجنب الوقوع تحت أنظار عيون العباسيين ورجالهم، ولكن ثمة عامل حاسم ساعده ليس فقط على قطع أراضي مصر وشمال افريقيا، ولكن لدخول الأندلس وإعادة إحياء الخلافة الأموية فيها، وذلك قدرته على إثارة العاطفة القومية العربية، وتفهمه للشخصية العربية بعمق، فالقبائل العربية في مصر وشمال افريقيا كانت تدرك أن الثورة التي أسقطت الخلافة الأموية كان قوامها من الفرس، وكانت تبطن تعاطفا مع الأمويين، كما أن مواقف العباسيين من أحفاد الإمام علي – كرم الله وجهه – المقبولين شعبيا واستفرادهم بالسلطة، جعلت القبائل العربية تراجع مواقفها من العباسيين وتتخذ مواقف متحفظة منهم، وكان الأمويون أيضا يتعاملون بصورة تفضيلية مع العنصر العربي، وهو الأمر الذي أدركته القبائل العربية، واستشعرت بذكائها الفطري أن العباسيين لن يتعاملوا معهم بنفس الطريقة، وأنهم سيضطرون عاجلا أم آجلا لدخول صراع مع العباسيين، وهذه الأمور كلها تضافرت لتمهد طريق الداخل الصعب للأندلس.
قبل قراره بالدخول للأندلس، كان الوالي الأخير في زمن الأمويين يوسف الفهري يمسك بزمام الأمور كاملا، ويستعد لتأسيس حكم وراثي في فرصة تاريخية لاحت أمامه لتحقيق ذلك، وكان أبناء عمومته في ولاية افريقية تحت قيادة عبد الرحمن الفهري يطاردون الأمويين خوفا على هذه الولاية التي وجدوها لقمة سائغة أمامهم، ولكن ثم نقطة لم يضعها الفهريون في اعتبارهم لدى تعاملهم مع الداخل، ذلك أن أمه تنتمي للعرقية الأمازيغية (البربرية) وهو ما جعله يجد لدى القبائل البربرية مناصرين متحمسين جعلوا يمكنونه من الأرض بصورة تدريجية، ولكن ذلك لم يكن كافيا لحسم الأمر لمصلحته، فاحتاج لاستغلال الشرخ القائم بين القبائل اليمانية والعدنانية، وبناء على دعم اليمانيين له تمكن من حسم الأمر في شمال افريقيا، قبل أن يتقدم إلى الأندلس ويحقق نصرا حاسما على يوسف الفهري ومناصريه، ويعلن قيام الدولة الأموية من جديد، وكانت سيرته في الوصول إلى ذلك المجد من نقطة الصفر، أو حتى ما دونها بكثير، مدعاة لإعجاب ألد أعدائه، فالخليفة العباسي المنصور يقول عنه: (ذاك صقر قريش ، دخل المغرب وقد قتل قومه ، فلم يزل يضرب العدنانية بالقحطانية حتى ملك.) وكان لقب صقر قريش لصيقا بالداخل لما تمكن من تحقيقه بصورة فردية وفي ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد.
الداخل، وعلى الرغم من ثراء الأندلس التي حكمها أكثر من ثلاثين عاما وروعة طبيعتها وأجوائها، كان يشعر دائما بالغربة التي يثيرها حنينه الدائم لدمشق التي أصبحت بعيدة ومستحيلة، فيجد مرة نخلات زرعها بعض المهاجرين العرب ويقف أمامها قائلا:
يـا نخـل أنت غريبة مثلي في الغرب نائية عن الأهـل
فـابكي وهل تبكي ملمسة عجماء ، لم تطبع على خبل
لو أنهـا تبكـي إذن لبكـت مـاء الفرات ومنبت النخـل
لكنهـا ذهلــت وأذهلنـي بغضي بني العباس عن أهلي

» تاريخ الإسلام
» عظماء الإسلام
» أعلام الإسلام
» محاسن الإسلام (1)
» حال الإنسانية قبل الإسلام