عن أهل الحكمة فى مصر القديمة

عن أهل الحكمة فى مصر القديمة

نود اليوم أن نُرهِف السمع إلى بعض من كلمات حكيم مصر والدولة القديمة الأشهر بتاح حتب، والذى ترك لنا مجموعة كبيرة من الإرشادات والنصائح التى وجهها لابنه وإلى كل أجيال المصريين من بعده ، فنجده يُقرر ويقدم لنا منذ البداية قوله المأثور: ليس هناك من يُولد حكيمًا. وهو هنا يريد أن يبين لنا أن الحكمة لا تأتى للمرء إلا بالعلم والفطنة والتجربة والخبرة والحُنكة والعبرة ودروس الدهر واتخاذ القدوة. بعد ذلك تتوالى الكلمات لكى تبرز أهمية هذه الدروس المفيدة والتجارب الشخصية للرجل والهدف الأساسى من وراء صياغتها، وذلك على الوجه التالي: البداية للعبارات من طيب القول والتى صاغها الوزير بتاح حتب، والتى أرادها أن تكون هداية للجاهل عله أن يعرف، وأن تكون معيارًا لحسن التعبير، وتصير نفعًا لمن يستمع إليها ، وتصبح وبالاً على الذى يتجنبها.

بعد ذلك يتناول بتاح حتب العديد من أمور الحياة اليومية وخصوصًا فيما يتعلق بحسن الأداء داخل الأجهزة الحكومية، والابتعاد عن سوء السلوك فى معاملة الناس بصفة عامة، حتى إنه يوصى الزوج خيرًا بزوجته وبيته، وينبه الضيف إلى آداب المائدة، ويحث على مراعاة الصداقة حق رعايتها، وغير ذلك الكثير من مكارم الأخلاق، ويهتم أيضًا بقضية التحكم فى كل ما ينطق به الفم، فنجده فى هذا الصدد يُوجِّه قائلاً: عليك أن تكون حذرًا حريصًا طالما أنك مُقدم على التفوه بشيء ما، وقل فقط ما يكون له طيب الوقع فى النفوس.

ونود أن نتعرف من بعض كلمات الرجل الأخرى على أسلوب تناوله بعض القضايا، وكذلك وجهة نظره فى طبائع الأمور فى زمانه: إن الرجل ليُحدث نفسه أحيانًا قائلاً: إننى أريد أن أبقى فى السرير راقدًا وأحصل على الشيء الذى أتطلع إليه، بدلاً من أن يوطد العزم قائلاً: إننى أريد أن أصل إلى شيء عن طريق إنجازى وعرقي. وكانت مسألة إحداث ضرر أو أذى للناس من الأمور التى ركز عليها بتاح حتب مطالبًا بالابتعاد عن فعل ذلك ، فنسمعه فى مطلع تعاليمه ينبه محذرًا: لا يجب أن تُحدث رعبًا / ذعرًا للناس، ذلك أن الإله يوقع (عليك) عقابه نتيجة لذلك. ثم نراه يُعقب بعد ذلك فيقول: إنه لن يحدث أبدًا أن يكون جعل الناس فى فزع أمرًا طيبًا، ذلك أن الشيء الذى قدّره الإله هو وحده الذى يقع.

وطد نفسك كمواطن أن تعيش فى أجواء من الهدوء والرضا، ذلك أن الذى به قد قسم الإله هو الذى سوف يأتى وبطريقة تلقائية. وأخيرًا تقدم نصيحته المهمة إلى كل رجال الإدارة فى الدولة المصرية: إذا كنت فى موقع إدارى (فكن لطيفًا صبورًا عندما تستمع إلى حديث من جاء إليك شاكيا، ولا تصده حتى يأتى بما فى جعبته عن تلك المسألة/ المشكلة التى أراد هو أن يُخبرك إياها. فالذى يكون فى بلية يُفضل كثيرًا أن يُريح قلبه أكثر من أن يُقضى له ما جاء من أجله . ذلك أنه عادة يقال من قبل الناس عن الموظف الذى هو يمتنع عن تلقى التضرعات أى الشكاوي: لماذا تجاوز التصرف هكذا بطريقة خاطئة مشينة كما وأنه حتى ولو لم يتحقق كل ما سعى إليه الشاكى ، فإن مجرد الإنصات الطيب إلى شكواه يكون فى حد ذاته سكينة للفؤاد .

وختامًا لهذه المقتطفات وهذا القبس اليسير عن موضوع القلم والكَلِم فى بلد الحضارة والأصالة وعند أمة العطاء والانتماء، فلعله أن يكون مناسبًا أن نورد بعضًا مما جاء فى بردية Chester Beatty IV (المتحف البريطاني) عن هؤلاء الكُتّاب من أهل العلم والفضل الذين وهبوا حياتهم للقلم والورق وتركوا رصيدًا زاخرًا من التعاليم والنصائح والمعرفة والخبرة، وصاروا بالنسبة للأجيال من بعدهم من الخالدين. تقول بعض كلمات البردية عنهم: إنهم لم يبنوا الأهرام ولم يقيموا اللوحات الحجرية التى تخلدهم، إلا أن كتبهم كانت هى كل ميراثهم، حتى إن لوحة الكتابة كانت بمنزلة الابن الحبيب بالنسبة لهم، وكانت تعاليمهم (مجموعة الحكم والمواعظ التى سطروها فى كتبهم) هى أهرامهم، وأما يراع الكاتب فكان فى مكانة طفلهم . لقد مضوا منذ قرون إلى رحاب الآخرة وأسماؤهم كان من المفترض أن تُنسي، إلا أن الكتاب الذى سطروه فى حياتهم هو الذى سوف يُبقى ذكرهم متجددًا قائمًا وحياً .

وفى ذلك نجد الحكيم آمون نخت(عصر الرعامسة) ينصح تلميذه حورى مين قائلاً له: عليك أن تُرتب نفسك أن تُصبح عالمًا / مثقفًا، وذلك بأن تكون زائرًا متحمسًا لبيت الحياة (أكاديمية المعارف والبحث العلمى فى مصر القديمة والتى كانت ذات مكتبة عامرة)، ذلك أن هذا يعنى أنك سوف تصبح بمثابة خزانة صندوق كتب يتحرك على الأرض.

وفى بردية Lansing (نهاية عصر الرعامسة المتحف البريطاني) نسمع ما سُجل عن أهمية وفضل الكتابة بصفة عامة، حيث إنها تعطى أصحابها والمداومين عليها طاقة وحيوية وشبابًا متجددًا. تقول الكلمات بحرفيتها: مُبتهج يكون قلب الذى يمارس الكتابة، ذلك أنه يصير شابًا كل يوم.