ويضيف د. نصار «سيد درويش توفى وعمره 31 سنة، وإنتاجه الموسيقى كله كان خلال فترة عمرة وهو فى سن من 14 إلى 23 سنة وهى 9 سنوات فقط، لأن سيد درويش وبكل المقاييس كان لديه تدفق لحنى، فقد لحن 30 مسرحية فى 6 سنوات، كما أن الموسيقى قبل سيد درويش كانت تهتم بعنصر التطريب «إعادة الكلمات أكثر من مرة» حتى يضيع المعنى، وأيضا القدرة على الارتجال، وهذه قدرة موسيقية قوية لأنها ستستعرض المساحات الصوتية للمطرب لأنه وقتها لم يكن هناك ميكروفونات.
ويضيف: «لذلك استفاد سيد درويش من كل ذلك، وجعل ألحانه قائمة على التعبير عن معانى الكلمات خلال اللحن، مع شىء من التطريب، فمثلا لحن «أنا هويت وانتهيت» يحتاج إلى مطرب ليغنيه، فى حين أن «سلمى يا سلامة» ممكن أى حد يغنيها، فقد كان سيد درويش شخصا موهوبا، والناس اللى بالشكل ده بتاخد خبرة على طول ولا تحتاج إلى أن تعيد عليها مرة أخرى».
أما عن تعاطيه الكوكايين فيشير د. نصار إلى أن ذلك شيىء لا يدعو للاهتمام أو وضعه فى الاعتبار لأن المهم لدى شغله الموسيقى الذى أدخله التاريخ.
الطب الشرعى يكشف الحقيقة ولغز الوفاة
عرضت كل الشهادات السابقة على الدكتورة شيرين غالب، أستاذة الطب الشرعى والسموم بجامعة القاهرة ورئيسة قسم الطب الشرعى بكلية طب بنى سويف، فقالت: «وضع مورفين فى كأس الويسكى كلام غير دقيق طبيا وعلميا، لأن المورفين لا يؤخذ عن طريق الفم ولا يمتصه الجسم إلا إذا أخذ عن طريق الحقن ليؤدى الغرض منه وهو تهدئة الأعصاب، وتسكين الآلام، وفى حالة الجرعة الزائدة تؤدى إلى توقف التنفس عن طريق تدمير مركز التنفس فى المخ، أضف إلى ذلك أن كأس ويسكى واحدة هى جرعة غير قاتلة ولا مسكرة، فكيف تؤدى للوفاة؟
وتستكمل د. شيرين شهادتها لـ «الأهرام» قائلة: فى حالة سيد درويش فإن المورفين لو وضع فى كأس خمر له، فإنه لا يمتص عن طريق المعدة حتى وإن كان سيد درويش شامم كوكايين فهو من المنبهات وليس المثبطات للجهاز التنفسى، وبالتالى فإن الويسكى مع الكوكايين يوقف كل منهما مفعول الآخر، وعلى حسب شهادة حياة صبرى فإن الكوكايين برىء من وفاة سيد درويش، إلا إذا كانت المادة التى وضعت بالكأس لسيد درويش نوعا آخر من السموم.
وتستكمل قائلة: «شهادة حفيد سيد درويش وشهادة دكتور زين نصار تؤكد وجود شبهة جنائية فى وفاته، الأمر الذى يحتاج إلى استخراج رفاته والحصول على عينة من الأجزاء التى لم تتحلل مثل الأظافر، والعظام، والأسنان، حيث إنه من المعروف أن الموت بالتسمم أو السقوط من علو هما الأكثر شيوعا فى عالم الجريمة السياسية أو الوطنية لصعوبة اكتشافها إلا بالتشريح، والكشف عن السموم فى البول والدم وباقى أجهزة الجسم بأجهزة حديثة متاح الآن.
سألتها: هل كان يمكن لعبقرى مثل سيد درويش أن يكون مدمن كوكايين؟
قالت: مستحيل طبعا أن يؤلف ويلحن كل هذه الروائع وهو مدمن، لأن المدمن له مواصفات خاصة فى الشكل والطباع، وعدم الاهتمام بمظهره، والهلاوس والهذيان، وعدم الوعى، فكيف لمدمن أن يستطيع التركيز فى أعمال مثل سيد درويش، كما أن الكوكايين يؤدى للسهر بالفعل لكن دون عمل أو تأليف، فى حين أن إبداع سيد درويش كان فى حاجة إلى مخ واع وحاضر.
قلت لها: وماذا عن تسمم سيد درويش بالزرنيخ؟
أجابت: التسمم بالزرنيخ له أعراض مختلفة تماما عن التسمم بالمخدرات، فهو يسبب ألما شديدا فى البطن، وغيثانا، وقيئا، وإسهالا شديدا ويؤدى إلى فشل حاد فى الكبد، وهو من السموم المشهورة لقتل السياسيين، حيث قتل نابليون بونابرت على يد الإنجليز بعد نفيه لجزيرة سانت هيلانة عقب هزيمته فى معركة (واترلو) بسم الزرنيخ، الذى لا تظهر أعراضه على المريض إلا بعد مرور 4 ساعات، وبعد مئات السنين من وفاة نابليون تم تحليل عظامه واكتشفت وفاته بسم الزرنيخ .
وماذا عن وفاة سيد درويش بأزمة قلبية؟
- الجثة تحللت الآن تماما وبالتالى لا يمكن تحديد ذلك، ولكن السم موجود ويمكن كشفه بسهولة، وبالتالى لابد من استخراج الجثة مرة أخرى لتحليل العظم والشعر، لأن السموم تظل فى العظام ولا تتحلل، ونتأكد من أنها جثته من خلال تحليل «دى إن ايه» لاحفاده ومنهم الفنان إيمان البحر درويش، وبه يمكن معرفة الجثة حتى لو مر عليها 100 سنة.
مفاجأة.. سيد درويش بوهيمى
ويروى عن سيد درويش أنه كان بوهيميا، حيث يعيش فوضى ليس لها مثيل فمثلا كان يأكل أى شيء. وفى أى مكان، وكان يصوم أياماً فلا يأكل ولا يشرب إلا ما يسد الرمق، وكنت تراه فى كل مكان، ثم يختفى فلا يعرف له أحد مستقراً، وقد روى عنه أنه كان مختليا بنفسه فى قهوة على ضفة النيل ليتم تأليف لحن من ألحانه بينما كان بيته غاصا بأصدقائه ومعارفه وكانت عروسه تنتظره ليلة الزفاف!.
كما انه كان ينام وينام وينام، ثم يسهر ويسهر ويسهر فلا ضابط لنومه او سهره، اما ملابسه فقد كانت فوضى لا حد لها، ولم يكن ينتظم منها الا رباط رقة الفن الذى كان لا يفارق رقبته لحظة، وكان يتقاضى ثمن ألحانه فى فترات متقطعة إذ لم يكن له مرتب ثابت اللهم الا عند اشتغاله مع نجيب الريحانى فكان يرسل جانبا من النقود إلى عائلته فى الاسكندرية، وينفق الباقى وقد يتجاوز مئات الجنيهات على أكثر من عشرة من اصدقائه كانوا يصاحبونه فى سهراته البوهيمية ولياليه الليلاء- او الملاح كما كان يسميها .
لغز اختفاء بطاقته وجواز سفره وملابسه
أعود لسؤال الحفيد محمد حسن درويش: أين مقتنيات وأوراق سيد درويش الشخصية؟
فيجيب: أو ملابسه، طبعا حين توفى سيد درويش كانت تجرى عادات هذه الأوقات توزيع ملابس المتوفى بعد اربعين يوما من الوفاة، ولم يكن يوجد الوعى للاحتفاظ بملابس متوفى وذلك للجهل وعدم اكتراث لمكانة سيد درويش، وأنه من مشاهير الفنانين وكان يجب الاحتفاظ بملابسه الشخصية ماكانوش فاكرين أنه ممكن الاحتفاظ بها فى متحف أو غير ذلك، أما أصول النوت فيوجد منها بمكتبة الإسكندرية مع قسيمة الزواج الخاصة بالزيجة الأخيرة جليلة عبد الرحيم (جدتي) وقد أهديناها لمكتبة اسكندرية للحفاظ عليها وعرضها للجمهور، حيث يوجد ركن بالمكتبة به الصور والنوت والعود الخاص بسيد درويش. أما بخصوص البطاقة الشخصية وجواز السفر فلم يستدل عليهما تماما، فى حين أن منزل سيد درويش بالإسكندرية هدم ولم يتبق منه غير حطام، أما منزله بالقاهرة فنحن نحافظ عليه ونرممه وهو بحى روض الفرج جزيرة بدران حارة على عبد الناصر متفرع من شارع ابن الرشيد وجزيرة بدران، مع العلم أنه يوجد ثلاثة أعواد لسيد درويش، واحد بمنزل سيد درويش بجزيرة بدران، والثانى بمكتبة الإسكندرية إهداء منا، والثالث مع أولاد العم.
« السنة دى مش حاتتم على وأنا فى الدنيا».
بعد وفاة سيد درويش بأيام قليلة روى صديقه بديع خيرى هذه الواقعة، مشيرا إلى أن سيد درويش كان يتوقع الموت فى أية لحظة، حيث قال: «أهدى إليه ذات يوم صورة له كتب عليها:
صديقى ان عفا رسمي
وهد الموت بنياني
فناج الروح واذكرني
نزيل العالم الثاني
وكان يكتب أمثال هذين البيتين المفعمين بالتشاؤم كلما أهدى إلى صديقه صورة له..
ودخل على صديقه ذات يوم وقد اصفر لونه وظهر عليه التأثر الشديد وقال: «اسمع.. أنا النهارده الصبح كنت قاعد باشتغل جوه أوضتى فى أمان الله، بصيت على غفلة لقيت صورتى اللى محطوطة قدامى جنب زهرية ورد قلبت على الأرض لوحدها بدون أى شيء ما يمسها، وأقول لك الحق مر على ذهنى ساعتها خاطر محزن ألهمنى بأن السنة دى مش حاتتم على وأنا فى الدنيا».
ومن المصادفات العجيبة أن سيد درويش مات بعد هذه الحادثة ببضعة أشهر!!
ويبقى السؤال حائرا منذ ما يزيد على 90 عاما، من قتل سيد درويش؟، ومن دمر سمعته وألصق به إدمان الكوكايين؟
كلها اسئلة حائرة رقدت مع جثمانه بقبره فى انتظار من يكشف الحقيقة.