الشبهة الخامسة عشرة:
قال الطاعنون: "قول أبي بكر: "أقيلوني؛ أي: التمسوا لي العذر؛ فلستُ بخيركم"، ولو كان إمامًا لم يجز له طلب الإقالة".
أولًا: ينبغي بيان صحة هذا القول، وإلا فما كل منقول صحيحًا، والقدح بغير الصحيح لا يصح.
ثانيًا: إنْ صح هذا عن أبي بكر رضي الله عنه لم تجزْ معارضته بقول القائل: الإمام لا يجوز له طلب الإقالة؛ فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فلِمَ لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك؟ بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نص، فلا يجب الجزم بأنه باطل، وإن لم يكن قاله فلا يضر تحريم هذا القول.
ثالثًا: هذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها، وخوف الله ألا يقوم بحقوقها، وهذا يناقض ما يقوله الرافضة: إنه كان طالبًا للرياسة، راغبًا في الولاية؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ288).
الشبهة السادسة عشرة:
قال الطاعنون: "قول أبي بكر: إن لي شيطانًا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني، ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم الكمال؟".
الرد على هذه الشبهة من وجوه:
الأول: أن المأثور عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "إن لي شيطانًا يعتريني؛ يعني عند الغضب؛ فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم"، وقال: "أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يمدح به.
الثاني: الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب، فخاف عند الغضب أن يعتدي على أحد من الرعية؛ فأمرهم بمجانبته عند الغضب.
روى الشيخان عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان))؛ (البخاري حديث: 7158، مسلم حديث: 1717).
وهذا هو الذي أراده أبو بكر، أراد ألا يحكم وقت الغضب، وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكمًا، أو يحملوه على حكم في هذا الحال، وهذا من طاعته لله ورسوله.
الثالث: أن يقال: الغضب يعتري بني آدم كلهم.
روى مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلَفَينه، فإنما أنا بشر؛ فأي المؤمنين آذيته شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاةً وزكاةً، وقربةً تقربه بها إليك يوم القيامة))؛ (مسلم حديث: 2601).
وأيضًا فموسى رسول كريم، وقد أخبر الله عن غضبه بما ذكره في كتابه.
فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة، فكيف يقدح في الإمامة؟! مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه، وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله؛ فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة، فكيف تنافيها شدة أبي بكر؟!
الرابع: قصد بذلك أبو بكر رضي الله عنه الاحتراز أن يؤذي أحدًا منهم.
الخامس: قال موسى لما قتل القبطي: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 15]، وقال فتى موسى: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63]، وذكر الله في قصة آدم وحواء: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]، وقوله: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 20].
فإذا كان عَرَضُ الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء عليهم السلام، فكيف يقدح في إمامة الخلفاء؟!
سادسًا: قوله: "فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني"، فهذا من كمال عدله وتقواه، وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك، وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك، فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى، وإن زاغ وأخطأ بيَّنوا له الصواب ودلوه عليه.
سابعًا: قولهم: "من شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم التكميل؟"
الرد على ذلك من وجوه:
أولًا: معناه أنه يجب على الإمام والرعية أن يتعاونوا على البِر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج، والدين قد عرف بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات، فإن كان الحق فيها بينًا أمر به، وإن كان متبينًا للإمام دونهم بينه لهم، وكان عليهم أن يطيعوه، وإن كان مشتبهًا عليهم تشاوروا فيه حتى يتبين لهم، وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له، وإن اختلف الاجتهاد؛ فالإمام هو المتبَع في اجتهاده.
الثاني: كل من المخلوقين قد استكمل بالآخر؛ كالمتناظرين في العلم، والمتشاورين في الرأي، والمتعاونين المتشاركين في مصلحة دينهما ودنياهما.
الثالث: أنه ما زال المتعلمون ينبهون معلمهم على أشياء، ويستفيدها المعلم منهم، مع أن عامة ما عند المتعلم من الأصول تلقَّاها من معلمه، وكذلك في الصناع وغيرهم.
الرابع: موسى صلى الله عليه وسلم قد استفاد من الخضر ثلاث مسائل، وهو أفضل منه، وقد قال الهدهد لسليمان: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ [النمل: 22]، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه، وكان أحيانًا يرجع إليهم في الرأي؛ كما قال له الحباب يوم بدر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل: أهو منزل أنزلكه الله تعالى فليس لنا أن نتعدَّاه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فقال: ((بل هو الحرب والرأي والمكيدة))؛ فقال: ليس هذا بمنزل قتال، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي الحباب.
الخامس: أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عند الأمة إلا شرفًا وتعظيمًا، ولم تعظم الأمة أحدًا بعد نبيها كما عظَّمت الصديق، ولا أطاعت أحدًا كما أطاعته، من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة أخافهم بها، بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعًا، مقرِّين بفضيلته واستحقاقه، ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم، ومراجعتهم له، وهذا أمر لا يشركه فيه غيره؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8صـ276:273).
الشبهة السابعة عشرة:
قال الطاعنون: "قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40].
هذه الآية تدل على ضعف أبي بكر وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: يموتا جميعًا، وبقضاء الله وقدره".
الرد على هذه الشبهة:
هذا كله كذب ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا، والرد من عدة وجوه:
أولًا: هذه الآية دليل على حزن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام، وكان أبو بكر يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارةً ووراءه تارةً، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك".
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الروافض أنه لم يرض بأن يموتا جميعًا؛ بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله.
وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))، وحزن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له، واحتراسه عليه، ودفع الأذى عنه، وهذا من أعظم الإيمان؛ فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه؛ فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه.
ثانيًا: قولهم: "إنه يدل على قلة صبره" فباطل؛ بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به؛ فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب؛ ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم))؛ (البخاري حديث: 1304/ مسلم حديث: 924).
ثالثًا: قولهم: "إنه يدل على عدم يقينه بالله".
هذا كذب وافتراء، فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلًا على عدم يقينهم بالله؛ كما ذكر الله عن يعقوب، روى مسلم، عن أنس بن مالك، قال: (عند موت ابنه إبراهيم) دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون))؛ (مسلم حديث: 2315).
رابعًا: قولهم: "يدل على الضعف وعدم الرضا بقضاء الله وقدره"، هو باطل؛ لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من أكثر الصحابة إيمانًا بقضاء الله وقدره، وكل من قرأ سيرته المباركة يعرف ذلك؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ462:456).
الشبهة الثامنة عشرة:
قال الطاعنون: "تقديم أبي بكر إمامًا في الصلاة كان خطأً؛ لأن بلالًا لمَّا أذن بالصلاة، أمرت عائشة أن يقدم أبا بكر فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع التكبير؛ فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس، فنحاه عن القبلة، وعزله عن الصلاة، وتولى الصلاة ".
الرد على هذه الشبهة:
الرد من وجهين:
أولًا: هذا من الكذب المعلوم عند جميع أهل العلم بالحديث، ويقال لهم: من ذكر ما نقلتم بإسناد يوثق به؟!
ثانيًا: هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصل بهم إلا صلاةً واحدةً، وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلي بهم حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه واستخلافه له في الصلاة، بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك وصلى بهم أيامًا متعددةً؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ557:556).
روى الشيخان، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل))، قلت: إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبكي، فلا يقدر على القراءة، فقال: ((مُروا أبا بكر فليصل))، فقلت: مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل))، فصلى؛ (البخاري حديث: 712، مسلم حديث: 418).
الشبهة التاسعة عشرة:
قال الطاعنون: "لو أنفق أبو بكر الصديق في سبيل الله لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي بن أبي طالب: سورة (هل أتى) (الإنسان: 1)".
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
الأول: أما نزول سورة (هل أتى) في علي بن أبي طالب، فمما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه كذب موضوع، والدليل الظاهر على أنه كذب أن سورة (هل أتى) مكية باتفاق العلماء، نزلت قبل الهجرة، وقبل أن يتزوج عليٌّ بفاطمة، ويولد الحسن والحسين، ولم ينزل قط قرآن في إنفاق علي بن أبي طالب بخصوصه؛ لأنه لم يكن له مال، ولما تزوج بفاطمة بنت رسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له مهر إلا درعه.
ثانيًا: كل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله؛ فأبو بكر الصديق رضي الله عنه هو أول المرادين بها من الأمة؛ مثل قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾ [الحديد: 10]، وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم، وكذلك قوله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ [التوبة: 20].
ثالثًا: قوله تعالى: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 17، 18]، فذكر المفسرون مثل: ابن جرير الطبري وعبد الرحمن بن أبي حاتم وغيرهما بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهم أنها نزلت في أبي بكر الصديق؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ555:553).
الشبهة العشرون:
قال الطاعنون: "كان أبو بكر الصديق معلمًا للصبيان في الجاهلية، وفي الإسلام كان خياطًا، ولما وَلِي أمرَ المسلمين منعه الناس عن الخياطة، فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال".
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
الأول: قولهم: إن أبا بكر كان معلمًا للصبيان في الجاهلية، فهذا من المنقول الذي لو كان صدقًا لم يقدح فيه، بل يدل على أنه كان عنده علم ومعرفة، وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون الصبيان، منهم: أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن مزاحم، وعطاء بن أبي رباح، وأبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المجمع على إمامته وفضله، فكيف إذا كان ذلك من الكذب المختلق؟!
ثانيًا: قولهم: "إن الصدِّيق كان خياطًا في الإسلام، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة".
كذب ظاهر، يعرف كل أحد أنه كذب، وإن كان لا غضاضة فيه لو كان حقًّا، فإن أبا بكر لم يكن خياطًا، وإنما كان تاجرًا تارةً يسافر في تجارته، وتارةً لا يسافر، وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام، والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش، وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة، وكانت العرب تعرفهم بالتجارة.
ثالثًا: لما أصبح أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفةً للمسلمين أراد أن يتجر لعياله فمنعه المسلمون، وقالوا: هذا يشغلك عن مصالح المسلمين؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ546:540).
الشبهة الحادية والعشرون:
قال الطاعنون: "صعد أبو بكر الصديق يومًا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الحسن والحسين: «انزل عن منبر جَدِّنا»، فعلم أن ليس له لياقة الإمامة".
الرد على هذه الشبهة:
الرد من وجهين:
الأول: هذا كذب وافتراء على الحسن والحسين، فنقول للطاعنين: نريد دليلًا صحيحًا مسندًا على صحة هذا الكلام.
ثانيًا: لو افترضنا صحة هذا الكلام؛ فإن الحسن والحسين كانا صغيرين في ذلك الوقت، فإن الحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة في رمضان، والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشرة، فلا نقص ولا عيب في ذلك، فمن دأب الأطفال أنهم إذا رأوا أحدًا في مقام محبوبهم ولو برضائه يزاحمونه، ويقولون له: قم عن هذا المقام، فلا يعتبر العقلاء هذا الكلام، وهم وإن ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكامًا، ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد كمال العقل. (مختصر التحفة الاثنى عشرية؛ للدهلوي صـ238).
الشبهة الثانية والعشرون:
قال الطاعنون: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب فنام على فراشه ليلة الهجرة، وخشي من أبي بكر بن أبي قحافة أن يدل القوم عليه؛ فأخذه معه إلى الغار".
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: سبحانك هذا بهتان عظيم، فليأتوا بدليل مسند صحيح، يؤيد هذا الكلام، إن كانوا صادقين!
ثانيًا: من المعلوم أن أبا بكر الصديق كان من أكثر الصحابة حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أكثر الصحابة خوفًا على الرسول صلى الله عليه وسلم.
روى البيهقي عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه قال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فجعل يمشي ساعةً بين يديه، وساعةً خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعةً بين يديَّ، وساعةً خلفي؟))، فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: ((يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون لك دوني؟))، قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكن من مُلمَّة إلا أحببت أن تكون لي دونك، فلما انتهينا من الغار، قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر؛ (دلائل النبوة، للبيهقي جـ2 صـ476).
ثالثًا: تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق هي من أقوى الردود في الرد على هذا الكذب.
(1) روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أمَنِّ الناس علَيَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر))؛ (البخاري حديث: 2654).
(2) روى الشيخان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلت: من الرجال؟ فقال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب فعد رجالًا))؛ (البخاري حديث3662، مسلم حديث2384).
(3) روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان))؛ (البخاري حديث3675).
(4) روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي، للألباني حديث2897).
(5) روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنت عتيق الله من النار))؛ فيومئذ سمي: عتيقًا؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي؛ للألباني حديث: 2905).
الشبهة الثالثة والعشرون:
قال الطاعنون: "إن أبا بكر الصديق قد استخلف عمر بن الخطاب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا، فقد خالف أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم".
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: النبي صلى الله عليه وسلم أشار باستخلاف أبي بكر الصديق، والإشارة كالعبارة.
(1) روى الشيخان عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك (كأنها تقول: الموت)، قال: ((إن لم تجديني فأْتي أبا بكر))؛ (البخاري حديث3659، مسلم حديث2386).
(2) روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر))؛ (مسلم حديث2387).
(3) روى مسلم عن عائشة أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهت إلى هذا؛ (مسلم حديث2385).
ثانيًا: في زمن أبي بكر الصديق دخل كثير من العرب في الإسلام، وهم حديثو عهدٍ بالإسلام، فاجتهد أبو بكر في استخلاف عمر بن الخطاب، حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات؛ (مختصر التحفة الاثنى عشرية؛ للدهلوي، صـ242).
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين