ما معْنى الربّ؟ المُمِدُّ، الذي مَدَّ الغُدَّة الدرَقِيَّة باليود، وأمَدَّ البِنْكرياس بالأنْسولين، والأسْنان بالكلور، والعِظام بالكِلْس، والأعْصاب بالفسْفور، والدَّمَ بالحديد، شيءٌ عجيبٌ جداً، فمن أمَدّ الإنسان بِهذا الغِذاء المعْدني؟ العدس فيه الحديد، والتفاح كذلك، ومعنى الحديد أملاح الحديد وليس الحديد المُرَكَّب، فَرَبُّنا عز وجل هو الربُّ، ومعنى الربُّ هو المُمِدّ، فإذا أصابك مكْروهٌ فقُل: أعوذ بِرَبِّ الناس، ولا تقل: ابن أخي وصاحِبي! هذا نوعٌ من الشِّرْك بالله عز وجل، ثمَّ قال تعالى:﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾
قال بعضُ العلماء: المَلِك، هو الذي يحْكُم ولا يمْلِكُ، والمالك هو الذي يمْلِكُ ولا يحْكم، والله مالكٌ ومَلِكٌ، بعضُهم يقرأ في الفاتحة: ملِكِ يوم الدِّين، والآخر مالك يوم الدِّين، فالله مالكٌ وملِك، وبعضهم قال: الملِكُ هو الذي يمْلِكُ العُقَلاء يأمرهم وينْهاهم، والمالِكُ هو الذي يمْلِكُ الجمادات، وعلى كُلٍّ معنى ملِك بِأَوْسَعِ معانيها: الله الذي يمْلِكُ سَمْعَك وبَصَرَك وقلبك ودِماغَك، ومن يمْلِكُ عَدُوَّك؟ الله سبحانه وتعالى، فمَعْنى المالك أنّه حُرُّ التَصَرُّف في ملكه، وفي ملك الله لا يسْتطيع هذا المخْلوق أن يتَحَرَّك إلا بِأَمْر الله إنْ شاء قْبَضَ وإن شاء أطْلَقَ، إنْ شاء أمَدَّ وإنْ شاء منع عنه الإمْداد.
معنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور :
معنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور، أحْياناً شركة تحْوي ثمانين مُوَظَّفاً، لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُوَقِّعَ لك إلا المُدير العام، إما أنْ يكتب "مُوافق "، أو " غير مُوافق"، ولله المَثَلُ الأَعْلى، فالمَلِكُ هو الذي يمْلِكُ كُلَّ شيء، أعْضاءَكَ وحواسَّك وأجْهِزَتَكَ وزَوْجَتَكَ وأعْداءَكَ وأصْحابَكَ وجيرانَكَ وخُصومَكَ ومُنافِسيك، القِوى الطبيعِيَّة كما يُسَميها بعضُ الناس، فالرِّياح من يمْلِكُها؟ الله سبحانه وتعالى، إذا أثارَها بسرعة ثمانمئة كيلو بالساعة تُدَمِّرُ كُلَّ شيء، هناك أعاصير بأَمْريكا لا تُبْقي في المدينة شيئاً، ومن يمْلِكُ الأمْطار؟ الله سبحانه وتعالى، في إفْريقْيا سَبْعُ سنوات بِلا أمْطار، وعندي صُوَرٌ تُظهر كيف تموت الحَيوانات بِعَرْض الصَّحْراء! جفافاً، كان الفُراتُ يفيضُ علينا، ويطوف ويُدَمِّر القُرى، أمّا الآن فقد أصبح كَنَهْر برَدى! فَمَنْ يمْلِكُ الماء؟ الله سبحانه وتعالى، مالكُ الماء والأمْطار والرياح، ومن يمْلِكُ دَوْرة الأرض حوْل نفْسِها؟ الله سبحانه وتعالى، ومن يمْلِكُ هذا الشيء الذي أمامك؟ الله تعالى، كلمة مالِك تعني أنَّ الأمر بِيَدِهِ، هذا مملوك والله هو المالك، فالإنسان إذا علِم أنَّ الله ملِك، فإذا نظر إلى عَيْنَيْه ووجَدَهُما كبيرتين دَعْجاوَيْن، فقال: ما أجْمَل هاتين العَيْنَيْن، فَهُوَ أحْمَق إن لم يحمد الله، لأنَّ الله هو مالك العَيْنَيْن! فإذا سَلَبَ الله منهما نورهما فَقَدَ بَصَرَهُ، فالله هو المالك لهذا السَّمْع والقُوَّة، تجد الواحد بِكامِلِ قِواه فإذا به يصاب بالشلل، فالله هو المالك للقوّة، والدعاء النبوي:
(( ومتِّعْنا اللهم بأسْماعِنا وأبْصارِنا وقُوَّتنا ما أحْيَيْتنا واجْعَلْهُ الوارِثَ منا ))
[الترمذي عن ابن عمر]
من يمْلكُ هذا العَقْل؟ الله سبحانه وتعالى، فإذا اخْتَلَّ فأقْربُ الناس إليه يَتَوَسَّطون كيْ يُدْخَلَ مشْفى المجانين، يُصْبحون خائِفين منه، مع أنَّهُ هو الذي رَتَّبَ البيْت، ومعه شهادات عُلْيا، وأبٌ لأولاد، إلا أنَّهم لا يريدونه! صار عِبئاً على أسرته، أحدهم أخذ دكتوراه بالجيولوجيا، وجاء لِبَلَده مع زوْجَةٍ فِرَنْسِيَّة، وتَمَتَّع بِمَنْصَب رفيع جداً، وأعْطَوْهُ سيارات وبيوتاً، فإذا به يفْقِدُ بَصَرَهُ! فزارَهُ صديق وقال لي: إنه يقول: والله أتمنَّى أن أجْلس على الرصيف، وأتَكَفَّفَ الناس، وليس على ظَهْري إلا هذا الرِّداء، وليس عندي شيءٌ في الدنيا، ويَرُدُّ الله لي بصَري، من هو مالك البصر؟ قد يكون المرءُ رفيع الإيمان، فليس معْنى فقْدِ البصر أنَّ الشخْص إيمانه ضعيف! هذا بِعِلْمِ الله، فالذي يفْقِدُ بَصَرَهُ يرْقى بِفَقْدِ بَصَرِهِ إذا صبر، فالبصر نِعْمَة، وفَقْدُهُ نِعْمَة، هذا إذا تَعَمَّقْتَ في التوحيد، لأنّ كُلَّ شيءٍ بِيَدِه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ))
[البخاري عن أنس]
كلمة (مُسَيِّر) تعْني الحركة وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله :
ثمَّ قال تعالى:
﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾
أما الإله فهو المُسَيِّر، تحْريك الأفْلاك بِيَده تعالى، وكذا تحْريك الأرض والشمْس والقمر، وكذا حركة القُلوب، فإذا خَطَّط الإنسان قلبه، ورأى الشريط الطويل يقول الطبيب: حركة مُنتظَمَة، وحركة الأمْعاء والعَضَلات كذلك، وحركة عَدُوِّك بِيَد الله، فكلمة مُسَيِّر تعْني الحركة، وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله، قال تعالى:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
[ سورة الزمر: 62 ]
هناك مجموعة آيات وأحاديث، منها حديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال:
(( كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ))
[الترمذي عن ابْنِ عَبَّاسٍ ]
(( عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي قَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْراً لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ ))
[أبو داود عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ ]
آيات قرآنية تؤكد أن المشيئة بِيَد الله :
قال تعالى على لسان هود مخاطباً قومه:
﴿ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾
[سورة هود: 54-55 ]
وقال تعالى:
﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 80 ]
قال تعالى:
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 81 ]
وقال تعالى:
﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾
[ سورة الأنعام: 80 ]
إنّ المشيئة بِيَد الله، فإذا شاء أنْ يكون هذا عليَّ كان، هذا الشيء المُخيف بِيَد الله، فإذا شاء الله له أنْ يصِلَ إلَيَّ فَهُوَ يصِل، فأنا أخافُ منه ولا أخافُ منه، أخاف منه إذا شاء الله له أن يُؤذِيَني، ولا أخاف منه إذا لم يشأ الله له أن يؤذِيَني، لذلك الأفْعى كما قال المُوَحِّدون: تلْدَغُ عندها لا بِها، أيْ عند إرادة الله لا بِها، فَهِيَ لا تلْدَغُ، وكذا العقْرب إلا إذا شاء الله، قال تعالى:
﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾
[ سورة الأنعام: 80 ]
كُلَّ شيءٍ في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان وهناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة :
ثمَّ قال تعالى:
﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾
قال بعضُ المُفَسِّرين إنَّ كُلَّ شيءٍ في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان، فالشيطان يُوَسْوِس، وبعضُهم قال: هناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة: الأوَّل كما قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾
[سورة ق: 16 ]
أحْياناً النفْسُ المُنْقَطِعَة عن الله عز وجل أمَّارةٌ بالسُّوء مصْدر داخِلي بحْت، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الإنْس، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الجِنّ، ثلاثة مصادِر.
الدعوة لِكُلِّ شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هي مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي :
أما ربنا عز وجل فقال:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
[سورة الأنعام:112 ]
هناك شياطين الإنس وشياطين الجِنّ، فَشَياطين الإنْس يقولون لك: أين وَضَعْتَ مالك؟ بِالبَيْت، غَفَرَ الله لك، ضَعْهُ في البنْك وترْبَحُ الفائِدَة! هذا شيطان، ويقول لك مثلاً: هناك حفْلَةٌ بالفُنْدُق الفُلاني، فيه مناظر بهيجَة جداً، اخْتِلاط ونِساء فهذا شيطانٌ كذلك، بل وكُلُّ إنسانٍ دعاك للمَعْصِيَة وزَيَّنها لك فَهُوَ شيطان، وهذه حقيقة، إنْ كان اخْتِلاطاً أو خمْراً أو رِباً أو سرِقَة أو أكْل مالٍ حرامٍ أو كسْباً غيرَ مشْروع، ثمَّ يقول لك: الناس كُلُّها هكذا! فهذا هو الشيطان الإنْسي، لذلك قال بعضهم: ومن شياطين الإنْس المَشاؤون بالنَّميمة، ومن شياطين الإنْس بائِعو الشَّهَوات، فإذا فَتَح دار سينما مثَلاً، أو داراً لا تُرْضي الله عز وجل، أو فتَحَ محَلاً يبيعُ فيه أشْرِطَة غير مشْروعة، فَهُوَ شيْطان إنْسي، فالدعوة لِكُلِّ شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هي مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي، والنبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن شيْطان الإنْس نهْياً قاطِعاً فقال:
(( يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن.))
[عوف بن مالك عن أبي ذر]
هذا الذي يُقْنِعُك بالمَعْصِيَة ويُزَيِّنُها لك، ويُفَلْسِفُها لك، ويُعْطيهاَ شكْلاً مَنْطِقِياً هو شيطانُ الإنْس. هذا الوسْواس له صِفَة وهي أنَّهُ خناس، بِمُجَرَّد أنْ تقول: أعوذ بالله خَنَسَ، فَهُوَ شيطان يُوَسْوِس، لكِنَّك إذا اسْتَعَذْتَ بالله خَنَسَ، فالصِّفَة المُلازِمَة له أنَّهُ يخْنُس، قال تعالى:
﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾
الوَسْواسُ الخناس :
الموضوع الدقيق هنا موضوع الوَسْواسُ الخناس، قال عليه الصلاة والسلام:
((الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكَر الله خَنَس وإذا غَفَل وَسْوَسَ له.))
[أخرجه البخاري تعليقًا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما]
إذا شَعَر الإنْسان بالوَسْوَسَة معنى ذلك أنَّهُ غافِل، وإذا كان يَقِظاً معنى ذلك له السلامة، كأنْ يقول أحدهم لابنه - وقد دُعِيَ لِحَفْلة لا تُرْضي الله -: اِذْهَب ولا عليك وتَعَرَّف على الناس واخْتَبِر الحياة، وتَعَرَّف على المعْصِيَة كي تجْتَنِبَها، فهذا هو كلام الشيطان، مع أنَّ ظاهِر الكلام منْطِقي: اُدْخُل مُعْتَرَكَ الحياة وجَرِّب، ولا تَكُن غَبِياً:
((الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكَر الله خَنَس وإذا غَفَل وَسْوَسَ له.))
شيءٌ آخر، قال تعالى:
﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾
[سورة الحشر: 16 ]
وقال تعالى حكاية عنه:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
[سورة إبراهيم: 22 ]
النِّسْيان والنعاس والخوف والتَّذْكير بِأُمور ماضِيَة وحاضِرَة هذا كُلُّه من عَمَل الشيطان:
إنّ الشيطان أحْياناً يُوَسْوِسْ لك أموراً قد مَضَتْ بأنْ يُذَكِّرُكَ بِسَفَرٍ مضى عليه خمْسُ سنوات بالتفْصيل، وتشاجرتَ مع ابن عَمِّك منذ عشْر سنوات، يأتي ويُذَكِّرُك بالحادِثَة، وكيفَ تحداك؟! وماذا قلتَ له؟ وماذا قال لك؟ كُلُّ هذا في الصلاة، فهذا فيما مضى، ويُوَسْوِسٌ كذلك فيما سَيَأتي، غداً سَتُصْبِح صاحب مَحَلٍّ تِجاري، وتشْتري سيارة، وتقتني بيْتاً، وتقيم مَصْيَفاً، وتشْتري أرضاً يكون لك فيها مسبح ومسكن كبير، كُلُّ هذا في الصلاة، اشْترى وبنى وزرع وأثمر!! ثمَّ ينْسى إنْ كان واقِفاً في صلاته أم قاعِداً، وقد يقول أشْهد أنْ لا إله إلا الله وهو واقف! وأما في الحاضِر فَيُوَسْوِسُ له بالمَعْصِيَة، اِفْعَل وانْظر، ولا تدع هذه النَّظْرة تفوتُك، تَمُرُّ امْرأةً بالطريق فَيَقول له: تَعَرَّف على مُواصَفات الجمال كي تخْطُب! فالشيطان يأتي للإنسان من تفْكيره، ومبْدأ عقْلِهِ وقِيَمِهِ. ثمَّ مسْألة النِّسْيان، قال تعالى:
﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
[سورة الأنعام: 68 ]
فهُوَ يُنْسيكَ العمل الصالح، وعَد أُخْتَهُ أنْ يُعْطيهاَ كُلَّ شهْر مئة ليرة، فإذا جاء المَوْعِد أنْساهُ الشيْطان، يُمْضي أوَّل سبت وثانيه وثالثُه ورابِعُهُ ولم يُعْطِها شيئاً، الطالب يكون عنده دَرْس، فَيَقول له الشيطان: تمهّل قليلاً فالأُسْتاذ لن يأتِيَ الآن، فإذا ذَهَب الطالب وَجَد الحِصَّة في آخِرِها، فالنِّسْيان من الشيْطان، والنُّعاس كذلك من الشيْطان، فقد قيل: النعاس في مجْلِسِ العِلْم من الشيْطان، في أثْناء الدرْس ينعس ويتثاءب، فإذا انتَهى نَشُط وسَهَر إلى الساعة الواحدة ليلاً! والخوف كذلك من الشيطان، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
[سورة آل عمران: 175 ]
يُقابل الوَسْوَسةَ الإلْهامُ فالغافل يُوَسْوَسُ له أما المؤمن فَيُلْهَم :
النِّسْيان والنعاس والخوف والتَّذْكير بِأُمور ماضِيَة والتي ستأتي والحاضِرَة، هذا كُلُّه من عَمَل الشيطان، إلا أنَّه لا يمْلِكُ على ابن آدم سُلْطاناً، ويُقابل الوَسْوَسةَ الإلْهامُ، فالغافل يُوَسْوَسُ له، أما المؤمن فَيُلْهَم، قال ربنا عز وجل:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
[سورة البقرة: 257 ]
كان مُسْتقيماً فانْحَرَف، وهذه كانت مُسْتقيمة فأصْبَحَتْ سافِرَة، وهذا كان تعامله حلالاً فصار حراماً، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾
[سورة القصص: 7 ]
وقال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾
[سورة النحل: 68 ]
هذا وَحْيُ إلْهام، تجد المؤمن مُسَدَّداً، اسْتِقامةً وعملاً طَيِّباً، لدينا فرق بين الوَسْوَسَة والإلْهام وهو فرق عِلْمي، كُلُّ ما يأمر به كتاب الله والسنّة المُطَهَّرة إذا جاءَكَ خواطِر من هذا الموضوع فَهِي خواطِر من المَلَك، وكُلُّ ما نهى عنه الله في الكتاب والسنَّة إذا جاءَتك خواطر من هذا الموضوع فهُوَ من الشيْطان، فالمِقْياسُ إذاً الكتاب والسنّة ولا مِقْياس ثانٍ لذلك، فالذي يتوافق معهما هو إلْهام، والذي يتعارض معهما وسْواس من الشيْطان.
المنافق يمْشي مع الشيْطان إلى آخر الطريق بخِلاف المؤمن :
آخر شيء المؤمن إذا جاءَهُ شيْطانٌ - وقَلَّما يأتيه - لا يسْتَرْسِل معه، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾
[سورة الأعراف: 201 ]
أما المنافق فيمْشي مع الشيْطان إلى آخر الطريق بخِلاف المؤمن، فحينما يشْعُر بِالوَسْوَسَة الشيْطانِيَّة يقول: أعوذ بالله من الشيْطان الرجيم. ثمَّ قال تعالى:
﴿ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾
((وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ ))
[مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ]
طوال الليل سباب وشجار وصِياح لأنَّهُ لم يُسَلِّم، وكذا إذا لم يذْكر الله عند الطعام، تَجِدُهم ما شَبِعوا! فإذا دخل الواحد منا بيتَه فعليه أنْ يُسَلِّم، كي يذْهب الشيطان.
ملخص سريع لسورة الناس :
ثمَّ قال تعالى:
﴿ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾
الآن رفيق السوء شيْطانُ الإنْس، وحاشِيَةُ السوء شيْطان الإنس، والنمام من شياطين الإنْس، وبائِعُ الشَهوات من شياطين الإنس، والدعوة إلى الربا من وسْوَسَة شياطين الإنْس، والدعوة إلى الزنا بِكُلِّ أنواعه من وسْوَسَة الشيطان، وكذا الدعوة إلى الخمْر والمَيْسر والاخْتِلاط. كُلُّ معْصِيَة دُعِيَ إليها، مع فَلْسَفَتِها، وجعْلِ الكلام مُنَمَّقاً عليها، فهذا من شياطين الإنس. فهذه السورة أصْبحت بِمَجْموعِها:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾
(قل أعوذ برب الناس)، عَرَفْنا ما معنى الرب؟ (ملك الناس)، أي بِيَدِهِ ملكوت كُلِّ شيء، (إله الناس)، أي المُسَيِّر، (من شر الوسواس الخناس)، أي بِمُجَرَّد أنْ تقول: أعوذ بالله يَخْنس، (الذي يُوسوسُ في صدور الناس)، أي في النفْس، (من الجِنَّة والناس).