وكان افسقورس يقول : (( إن النفس إذا كانت ، وهي مرتبطة بالبدن ، تاركة للشهوات ، متطهِّرة من الأدناس ، كثيرة البحث والنظر في معرفة حقائق الأشياء ، انصقلت صقالة ظاهرة واتحد بها صورةٌ من نور الباري ، يحدث فيها و يكامل نور الباري ، بسبب ذلك الصقال الذي اكتسبه من التطهر . فحينئذ يظهر فيها صور الأشياء كلها ومعرفتها ، كما يظهر صور خيالات سائر الأشياء المحسوسة في المرآة إذا كانت صقلية . فهذا قياس النفس : لأن المرآة إذا كانت صدئة ، لم يتبين صورة شيء فيها بتةً ، فإذا زال منها الصدأ ظهرت و تبيَّنت فيها جميع الصور ؛ كذلك النفس العقلية ، إذا كانت صدئة دنسة ، كانت على غاية الجهل ، ولم يظهر فيها صور المعلومات ، وإذا تطهَّرت و تهذَّبت – وصفاء النفس هو أن النفس تتطهر من الدنس ، وتكتسب العلم – ظهر فيها حالاً صورة معرفة جميع الأشياء ، وعلى حسب جودة صقالتها تكون معرفتها بالأشياء .
فالنفس ، كلما ازدادت صقالاً ، ظهر لها و فيها معرفة الأشياء .
وهذه النفس لا تنام بتة ، لأنها في وقت النوم تترك استعمال الحواس ، وتبقى محصورة ، ليست بمجردة على حدتها ، وتعلم كل ما في العوالم ، وكل ظاهر وخفي . ولو كانت هذه النفس تنام ، لما كان الإنسان – إذا رأى في النوم شيئا – يعلم أنه في النوم ، بل لا يفرِّق بينه و بين ما كان في اليقظة .
وإذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة ، رأت في النوم عجائب من الأحلام ، وخاطبتها الأنفس التي فارقت الأبدان ، وأفاض عليها الباري من نوره ورحمته ، فتلتذُّ حينئذ لذة دائمة ، فوق كل لذة تكون بالمطعم و المشرب والنكاح والسماع والنظر والشم واللمس ، لأن هذه لذَّات حسية دنسة تعقب الأذى ، وتلك لذة إلهية روحانية تعقب الشرف الأعظم . والشقي المغرور الجاهل من رضي لنفسه بلذات الحس ، وكانت هي أكثر أغراضه ، ومنتهى غايته .
وإنما نجيء في هذا العالم في شبه المعبر والجسر ، الذي يجوز عليه السيارة ، ليس لنا مقام يطول . وأما مقامنا ومستقرُّنا الذي نتوقع فهو العالم الأعلى الشريف ، الذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت ، حيث تقرب من باريها ، وتقرب من نوره ورحمته ، وتراه رؤية عقلية لا حسية ، ويفيض عليها من نوره ورحمته . )) ، فهذا قول افسقورس .
فأما أفلاطون فقال ، في هذا المعنى : (( إن مسكن الأنفس العقلية ، إذا تجرَّدت ، هو كما قال الفلاسفة القدماء ، خلف الفلك ، في عالم الربوبية ، حيث نور الباري .))
(( وليس كل نفس تفارق البدن تصير من ساعتها إلى ذلك المحل ، لأن من الأنفس من يفارق البدن ، وفيها دنس وأشياء خبيثة ، فمنها ما يصير إلى فلك القمر فيقيم هناك مدة من الزمان ، فإذا تهذَّبت ونقيت ارتفعت إلى فلك العطارد فتقيم هناك مدة من الزمان ، فإذا تهذبت ونقيت ارتفعت إلى فلك كوكب فتقيم في كل فلك مدة من الزمان . فإذا صارت إلى الفلك الأعلى ، ونقيت غاية النقاء ، وزالت أدناس الحس و خيالاته وخبثه منها . ارتفعت حالاً إلى عالم العقل ، وجازت الفلك ، وصارت في أجلِّ محلّ و أشرفه ، وصارت حالاً بحيث لا تخفى عليها خافية ، وطابقت نور الباري ، وصارت تعلم كل الأشياء ، قليلها وكثيرها ، كعلم الإنسان باصبعه الواحدة ، أو بظفره ، أو بشعرة من شعره ، وصارت الأشياء كلها مكشوفة بارزة لها ، وفوّض إليها الباري أشياء من سياسة العالم تلتذُّ بفعلها ، والتدبير لها . ))
ولعمري لقد وصف أفلاطون ، وأوجز ، وجمع ، في هذا الاختصار ، معاني كثيرة .
ولا وصلة إلى بلوغ النفس إلى هذا المقام و الرتبة الشريفة ، في هذا العالم ، وفي ذلك العالم ، إلاَّ بالتطهير من الأدناس . فإن الإنسان ، إذا تطهَّر من الأدناس ، صارت نفسه حالاً صقيلة تصلح ، وتقدر أن تعلم الخفيَّات من الغيوب . وقوة هذه النفس قريبة الشبه بقوة الاله ، تعالى شأنه ، إذا هي تجرَّدت عن البدن ، وفارقته ، وصارت في عالمها الذي هو عالم الربوبية .
و العجب من الإنسان كيف يهمل نفسه ، ويبعدها من باريها ، وحالها هذه الحالة الشريفة !
وقد وصف أرسطاطاليس أمر الملك اليوناني الذي تحرَّج بنفسه ، فمكث لا يعيش و لا يموت أياما كثيرة ، كلما أفاق أعلم الناس بفنون من علم الغيب ، وحدَّثهم بما رأى من الأنفس والصور والملائكة ، وأعطاهم في ذلك البراهين . و أخبر جماعة من أهل بيته بعمر واحد واحد منهم ، فلما امتحن كلُّ ما قال ، لم يتجاوز أحد منهم المقدار الذي حدَّه له من العمر . و أخبر أن خسفاً يكون في بلاد الأوس ، بعد سنة ، وسيل يكون في موضع آخر بعد سنتين ، فكان الأمر كما قال .
وذكر أرسطاطاليس أن السبيل في ذلك أن نفسه إنما علمت ذلك العلم لأنها كادت أن تفارق البدن ، وانفصلت عنه بعض الانفصال ، فرأت ذلك . فكيف لو فارقت البدن على الحقيقة ؟ لكانت قد رأت عجائب من أمر الملكوت الأعلى !
فقل للباكين ، ممن طبعه أن يبكي من الأشياء المحزنة ، ينبغي أن يُبكى و يكثر البكاء على من يهمل نفسَه ، و ينهك من ارتكاب الشهوات الحقيرة الخسيسة الدنيَّة المموهة التي تكسبه الشره ، و تميل بطبعه إلى طبع البهائم ، ويدع أن يتشاغل بالنظر في هذا الأمر الشريف ، و التخلّص إليه ، ويطهِّر نفسه حسب طاقته . فإن الطهر الحق هو طهر النفس ، لا طهر البدن ...
ومن فضيلة المتعبد لله ، الذي قد هجر الدنيا ولذاتها الدنِّية ، ان الجهال كلهم – إلاَّ من سخر منهم بنفسه – يعترف بفضله ، ويجلّه ، ويفرح أن يطلع منه على الخطأ .
فيا أيها الإنسان الجاهل ، ألا تعلم أن مقامك في هذا العالم إنما هو كلمحة ، ثم تصير إلى العالم الحقيقي ، فتبقى فيه أبد الابدين ؟! وإنما أنت عابر سبيل في هذا الأمر ، إرادة باريك عزَّ وجلَّ. فقد علّمته جلّة الفلاسفة ، واختصرناه من قولهم ان النفس جوهر بسيط .
فتفهّم ما كتبت به إليك تكن سعيداً ، أسعدك الله تعالى في دنياك وآخرتك .