فقال: كان هذا بالأمس فغضب محمد ومحمد فقالا له قولاً غليظاً. فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا، فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر:
أنت صاحب أبي موسى، والمعرض في كل شيء، فاذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت، فخرجا فقدما الكوفة وكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من الكوفة، فقام في الناس.
فقال: أيها الناس، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقاً وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على أمره.
وهذه فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فاغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار، وأووا المضطهد والمظلوم حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة.
فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي، فأخبراه الخبر، فأرسل الحسن وعمار بن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت فانطلقا حتى دخلا المسجد، فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الأجدع.
فقال لعمار: علام قتلتم عثمان؟
فقال: على شتم أعراضنا، وضرب أبشارنا.
فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولو صبرتم لكان خيراً للصابرين.
قال: وخرج أبو موسى، فلقي الحسن بن علي فضمه إليه، وقال لعمار: يا أبا اليقظان، أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته ؟.
فقال: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك، فقطع عليهما الحسن بن علي.
فقال لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء.
فقال: صدقت بأبي وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب)) وقد جعلنا الله إخواناً، وحرم علينا دماءنا وأموالنا.
فغضب عمار وسبه، وقال: يا أيها الناس، إنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أنت فيها قاعداً خير منك قائماً.
فغضب رجل من بني تميم لأبي موسى ونال من عمار، وثار آخرون وجعل أبو موسى يكفكف الناس، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، وقال أبو موسى:
أيها الناس أطيعوني، وكونوا خير قوم من خير أمم العرب، يأوي إليهم المظلوم، ويأمن فيهم الخائف، وإن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذ أدبرت تبينت، ثم أمر الناس بكف أيديهم، ولزوم بيوتهم.
فقام زيد بن صوحان فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، سيروا إليه أجمعون.
فقام القعقاع بن عمرو فقال: إن الحق ما قاله الأمير، ولكن لا بد للناس من أمير يردع الظالم، ويعدي المظلوم، وينتظم به شمل الناس، وأمير المؤمنين علي وليَ بما وليَ وقد أنصف بالدعاء، وإنما يريد الإصلاح، فانفروا إليه.
وقام عبد خير، فقال: الناس أربع فرق، علي بمن معه في ظاهر الكوفة، وطلحة، والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقه بالحجاز لا تقاتل ولا عناء بها.
فقال أبو موسى: أولئك خير الفرق، وهذه فتنة.
ثم تراسل الناس في الكلام ثم قام عمار، والحسن بن علي في الناس علي المنبر يدعوان الناس إلى النفير إلى أمير المؤمنين، فإنه إنما يريد الإصلاح بين الناس.
وسمع عمار رجلاً يسب عائشة فقال: اسكت مقبوحاً منبوحاً، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها، رواه البخاري.
وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] وجعل الناس كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر، وعمار، والحسن معه على المنبر، حتى قال له الحسن بن علي: ويحك! اعتزلنا لا أم لك، ودع منبرنا.
ويقال: إن علياً بعث الأشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة، وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة، واستجاب الناس للنفير، فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البر، وفي دجلة.
ويقال: سار معه اثني عشر ألف رجل ورجل واحد، وقدموا على أمير المؤمنين فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة، منهم: ابن عباس فرحب بهم، وقال: يا أهل الكوفة! أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى.
فاجتمعوا عنده بذي قار، وكان من المشهورين من رؤساء من انضاف إلى علي: القعقاع بن عمرو، وسعد بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والأشتر، وعدي بن حاتم، والمسيب بن نجية، ويزيد بن قيس، وحجر بن عدي وأمثالهم.
وكانت عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوف، فبعث علي القعقاع رسولاً إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الألفة والجماعة، ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف.
فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال: أي أماه! ما أقدمك هذا البلد؟
فقالت: أي بني! الإصلاح بين الناس.
فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها فحضرا، فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إنما جئت للإصلاح بين الناس.
فقالا: ونحن كذلك.
قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ وعلى أي شيء يكون؟ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن.
قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن.
فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم.
وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم، وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه – يعني: أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها – وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقاً من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر وائتنافه كانت علامة شر، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم.
وأيم الله: إني لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر.
قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه.
وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيباً: فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان، ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأمة، أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي من الله بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره.
ثم قال: ألا إني مرتحل غداً فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس.
فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد.
فقالوا: ما هذا الرأي وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟
فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت.
فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم.
فقال غلاب بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها.
فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذاً والله كان يتخطفكم الناس.
ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم، إن عيركم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أي يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه، وأصبح علي مرتحلاً، ومر بعبد القيس فساروا من معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كل في ناحية.
وقد سبق علي جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان فقالا: إن علياً أشار بتسكين هذا الأمر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك.