فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبَادِرُهُمْ إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
فحُدثت عن رجال من بني سلمة: أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت هذا المنزل أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره أم هو الرأي في الحرب قال: ” بلْ هو الرأي بالحرب ” فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا ليس لك بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما سواه من القُلُب ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فنزل جبريل فقال: الرأي ما أشار به الحباب.
فنهض ومَنْ معه حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه وأمر بالقلب فَغُورَتْ وبنى حوضًا على القليب الذي كان عليه ثم قذفوا فيه الأنية.
فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن سعد بن مُعَاذ قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبني لك عريشًا من جريد فتكون فيه وتُعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمَنْ وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حُبًا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك فدعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وبُنِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ فكان فيه ثم أقبلت قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحاربك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني ”.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام على فرس له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” دعوهم ”.
فما شرب منهم رجل إلا أسر أو قتل إلا حكيم بن حزام فإنه نجا على فرس له ثم أسلم فكان يقول إذا حلف: لا والذي نجاني يوم بدر.
فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهبِ اللخمي فقالوا: أحرز لنا أصحاب محمد فجال بفرسه نحو العسكر ثم رجع فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلًا أو ينقصون ولكن أمهلوني حتى أنظر القوم كمين فضرب في الوادي حتى أبعده فلم ير شيئًا فرجع فقال: ما رأيت شيئًا ولكني قد رأيت يا معشر قريش الولايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منكم رجالًا فإذا أصابوا أعدادهم فما خير في العيش بعد ذلك فردوا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى إلى عتبة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها هل لك في أن لا تزال تذكر بخير أ إلى آخر الدهر قال: وما ذاك يا حكيم قال: تَرْجع بالنَاس وتَحْمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي.
قال: قد فعلتُ.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمامة بن عمرو السهمي عن مسور بن عبد الملك اليربوعي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن حكيم بن حزام قال: خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها وهي: زهرة فلم يشهد أحدٌ من مشركيهم بدرًا ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة فجئت عتبة بن ربيعة فقلت: يا أبا الوليد هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت قال: أفعل ماذا قلت: إنكم لا تطلبون من محمدٍ إلا دم الحضرمي وهو حليفك فتحمل بديته وترجع بالناس.
فقال لي: فأنت وذاك فأنا أتحمل بدية حليفي فاذهب إلى ابن الحَنْظلية – يعني: أبا جهل – فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك فجئته فإذا هو بجماعة من بين يديه ومن ورائه وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: فسخت عقدي من بني عبد شمس وعقدي إلى بني مخزوم.
فقلت له: يقول لك عتبة: هل لك أن ترجع بالناس عن ابن عمك قال: أما وجد رسولًا غيرك فخرجت أبادر إلى عتبة وعتبةُ متكئ على إيماء بن رَخَصة وقد أهْدَى إلى المشركين عشر جزائر فطلع أبو جهل والشر في وجهه فقال لعتبة: انتفخ سَحْرُك! فقال له عتبة: ستعلم! فسَل أبو جهل سيفَه فضرب به متن فرسه فقال إيماء بن رخصة: بئس الفأل هذا فعند ذلك قامت الحربُ.
أخبرنا ابن الحصين أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدَثني أبي قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت حارثة بن مضرب يحدث عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح وما كان منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد بن الأسود.
قال ابن إسحاق: وقام عتبة خطيبًا فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا فوالله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجالًا من عشيرته فارجعوا أو خلُوا بينِ محمد وسائر العرب فإن أصابوه فذاك الذي أردتم فإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تَعَرَضُوا منه لما تريدون.
قال حكيم: وجئت إلى أبي جهل فوجدته قد نَثَل دِرْعًا له من جرابها فهو يهيئها فقلت: إن عتبة أرسلني بكذا وكذا فقال: انتفخ والله سَحْرُه حين رأى محمدًا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمدٍ وما بعتبة ما قال لكنه قد رأى محمدًا وأصحابه أكلَةَ جَزور وفيهم ابنه فقد تَخوفكم عليه – يعني أبا حذيفة بن عتبة وكان قد أسلم – ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له: هذا حَلِيفُك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد مقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعَمْراه فحميت الحرب وطلب عتبة بَيْضَة يدخلها رأسه فما وجد في الجيش بيضة تمنعه من عظم رأسه فاعتَجَز ببُرْدٍ له.
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الألوية فكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ وجعل شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن وشعار الخزرج: يا بني عبد الله وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
وقيل: كان شعار الكل: يا منصور أمت.
وكان مع المشركين ثلاثة ألويةٍ: لواء مع أبي عزيز بن عمير ولواء مع النضر بن الحارث ولواء مع طلحة بن أبي طلحة كلهم من بني عبد الدار.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى بدرٍ عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان.
فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي فقال: أعاهد الله لأشْرَبن من حَوْضِهم ولأهْدِمنه أو لأمُوتن دونه.
فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب فضربه في ساقه فوقع على ظهره تَشْخُبُ رجله دمًا ثم حَبَا إلى الحوض حتى اقتحم يريد أن يُبِر يمينَه وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله.
ثم خرج بعده عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد فدعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة فقالوا: من أنتم قالوا: رهط من الأنصار فقالوا: ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم: يا محمد أخْرِجْ إلينا أكفاءَنا من قومنا.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قم يا حمزة قم يا عبيدة قم يا علي ” فقالوا: أكفاء كرام فبارز عبيدة – وهو أسن القوم – عتبة بن ربيعة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد بن عتبة فقتل حمزة شيبة وقتل علي الوليد واختلف عبيدة وعتبة ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة فجاءا به إلى أصحابه وقد قطعت رجله فمُخها يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدًا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” بلى ” فقال عبيدة: لو كان أبو طلحة حيًا لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال: ” إن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل ” ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر ليس معه غيره.
وذكر ابن إسحاق عن أشياخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوفَ أصحابه يوم بدرٍ وفي يده قِدْحٌ يعدل به القوم فمر بسَوَاد بن غَزِية وهو مستنتل من الصف فطعن في صدره بالقدح وقال: اسْتَوِيا سوادًَا فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجعَتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني.
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: ” استقِدْ ” فاعتنقَه وقبل بطنه فقال: ” ما حملك على هذا يا سَواد.
فقال: حضَر ما ترى فلم آمن القتْل فأردتُ أن يكونَ آخر العهد بك أن يصدقَ جلدي جلدَي.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم عدل الصفوفَ ورجعٍ إلى العريش يناشد ربه وما وعده من النصر فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش خفقة ثم انتبه فقال: يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النَقع ”.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس يحرضهم ونفل كل امرئ منهم ما أصاب وقال: ” والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتَلُ صابرًا مُحتسِبًا مُقْبِلًا غير فقال عُمَيرُ بن الحُمام – وفي يده تَمَرات يأكلهن: بَخْ بَخْ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقْتلَني هؤلاء! ثم قذف التمَراتِ من يده وأخذ سيفَه فقاتل القوم حتى قُتِل وهو يقول: رَكضًا إلى اللهِ بِغَيْر زاد إلا التقَى وَعَمل المَعادِ وَالصبْر فِي الله ِعَلَى الجهاد وكل زَادٍ عُرْضَةُ النفَادِ غَيْرُ التُّقى والبر والرشَادِ فلما التقى النًاس قال أبو جهل: اللهم أقْطَعَنَا لِلرًحم وآتنا بما لا يُعرف فأحِنْه الغداة فكان هو المستفتِح على نفسه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حَفْنة من الحَصْباء فاستقبل بها قريشًا ثم قال: ” شاهت الوُجوه ” ثم نفخهم بها وقال لأصحابه: شُدُوا فكانت الهزيمة فقتل الله مَنْ قُتِلَ مِنْ صناديد قريش وأسر مَنْ أسر منهم فلما وضع القوم أيديَهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وسعد بنُ معاذ قائم على باب العريش متوشحًا السيف في نفر من الأنصار يحرسُون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون عليه كًرةَ العدوَ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكَرَاهِية لمَا يصنع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لكأنك يا سعد تكره ما يصنع الناس ” فقال: أجلْ والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أول وقعة أوقَعها الله بالمشركين فكان الإثْخَانُ في القتل أعَجَبَ إِلي من استبقاء الرجال.