قال: من أي شئ هذا؟ فأخبره أنه طبخه عصيراً، حتى صار إلى ثلثه، فغرف بإصبعه، ثم حركه في الإناء فشطره، فقال: هذا طلاء ؛ فشبهه بالقطران، وشرب منه، وأمروأمراء الأجناد بالشأم به ؛ وكتب في الأمصار: إني أتيت بشراب مما قد طبخ من العصير حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه كالطلاء، فاطبخوه وارزقوه المسلمين.
وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: ولحق أرطبون بمصر مقدم عمر الجابية، ولحق به من أحب ممن أبى الصلح، ثم لحق عند صلح أهل مصر، وغلبهم بالروم في البحر، وبقى بعد ذلك ؛ فكان يكون على صوائف الروم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين فيختلف هو ورجل من قيس يقال له ضريس ؛ فقطع يد القيسى، وقتله القيسى ، فقال:
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها فإن فيها بحمد الله منتـفـعـاً
بنانتان وجـرمـوز أقـيم بـه صدر القناة إذا ما آنسوا فزعاً
وإن يكن أرطبون الروم قطعها فقد تركت بها أوصاله قطعـاً
وقال زياد بن حنظلة:
تذكرت حرب الروم لما تطاولت وإذ نحن في عام كثير نزائلـه
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا مسيرة شهر بينهن بـلابـلـه
وإذ أرطبون الروم يحمى بـلاده يحاوله قرم هناك يسـاجـلـه
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها سما بجنود الله كيما يصـاولـه
فلما أحسوه وخافـوا صـوالـه أتوه وقالوا أنت ممن بواصلـه
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنـهـا وعيشاً خصيباً ما تعد مآكـلـه
أباح لنا ما بين شرق ومغـرب مواريث أعقاب بنتها قراملـه
وكم مثقل لم يضطلع باحتمالـه تحمل عبئاً حين شالت شوائلـه
وقال أيضاً:
سما عمر لمـا أتـتـه رسـائل كأصيد يحمى صرمة الحي أغيدا
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها تريد من الأقوام من كان أنحدا
فلما أتاه مـا أتـاه أجـابـهـم بجيش ترى منه الشبائك سجدا
وأقبلت الشأم العريضة بالـذي أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقسط فيما بينهم كـل جـزية وكل رفاد كان أهنا وأحـمـدا
وفي كتاب “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” لابن الجوزي ورد:
” قال علماء السير: لما انصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحاها وصالحه أهل الأردن فاجتمع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة وكتبوا إلى عمر بتفرقهم فكتب إلى يزيد: كن في ظهورهم وسرح معاوية إلى قيسارية وكتب إلى عمرو يصدم الأرطبون وإلى علقمة يصدم الفيقار.
فسار معاوية إلى قيسارية فهزم أهلها وحصرهم فيها فجعلوا كلما خرجوا إليه هزمهم وردهم إلى حصنهم ثم قاتلوا فبلغت قتلاهم ثمانين ألفًا وكملت في هزيمتهم بمائة ألف. وانطلق علقمة فحصر الفيقار بغزة وصمد عمرو إلى الأرطبون ومن بإزائه وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته فنزل على الروم بأجنادين والروم في حصونهم وعليهم الأرطبون وكان أدهى الروم وأبعدهم غورًا وكان قد وضع بالرملة جندًا عظيمًا وبإيلياء جندًا عظيمًا فأقام عمرو على أجنادين لا يقد من الأرطبون على شيء فوليه بنفسه ودخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد وسمع كلامه وتأمل حصنه فقال الأرطبون في نفسه: هذا عمرو ثم دعا حَرسِيا فقال: أخرج فأقم مكان كذا وكذا فإذا مرّ بك فاقتله وفطن له عمرو فقال: قد سمعت مني وسمعت منك وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر مع هذا الوالي فأرجع فآتيك بهم فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى وإلا رددتم إلى مأمنهم.
فقال: نعم ثم قال لرجل كان هناك: إذهب إلى فلان فرده إلي ثم بان له أن عمر وقد خدعه فبلغ الخبر إلى عمر فقال: للّه در عمرو ثم التقوا بأجنادين فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى بينهم وانهزم أرطبون فأوى إلى إيلياء ونزل عمرو بأجنادين فكتب إليه أرطبون: واللّه لا تفتح من فلسطين شيئًا بعد أجنادين فارجع لا تَغْن وإنما صاحب الفتح رجل إسمه على ثلاثة أحرف فعلم عمرو أنه عمر فكتب إلى عمر يعلمه أن الفتح مدخر له فنادى له الناس واستخلف علي بن أبي طالب فقال له علي: أين تخرج بنفسك فقال: أبادر لجهاد العدو موت العباس إنكم لو قد فقدتم العباس لانتقض بكم الشر ّكما ينتقض أول الحبل.