الجسر
نظر الرجل الى زوجته القابعة في ركنها القصي؟؟ في صمت تقلب كتاباً بين يديها وقال بإلحاج كأنه ينتظر رداً لحوار سابق:
سلمى ! ما زلت انتظر ردك . . ؟
قالت بتردّد: ماذا تريدني ان أقول؟
قال: أي شيء، فالحال بيننا اصبح صعباً والحديث بيننا اصبح بالقطارة والميزان . .
قالت: اليس هذا اسلوبك معي، حتى دربت نفسي على القبول به؟ فالحوار معك حوار منفرد كالتصفيق بيد واحدة . . .
قال: واليوم سأغير من اسلوبي، وارج وان نبدأ حواراً هادئاً كي نكسر الجحود المخيم على حياتنا. عودي معي بذكرياتنا واذكري لحظات السعادة التي ضمتنا سوياً، ربما ساعدتك على البوح بما يختزنه قلبك المغلق دوني . . .
عودي اليّ كما كنت بقلبك وروحك وابتسامتك الجميلة . . .
وترقرقت دمعة جافة في عينيها وقالت بنبرة هادئة متزنة:
تقول عودي . . . عودي اليّ بقلبك وروحك ولمسات حنانك كي تنير ابتسامتك المرحلة؟؟ ظلمات ايامي في هذا الزمن القاسي، وتزيل نظرتك الحنون جبال الهموم عن قلبي..؟
قال: أجل! كيف تغير كل شيء فيك . . بالامس كان يكفي ان اكون بقربك كي تملأين العالم مرحاً وحباً وعطاء . . تحرثين الليل وتزرعين الايام بالحب بحثاً عن وسيلة لادخال السعادة الى قلبي واقتناص البسمة المتعثرة على شفتي . . . أين كل ذاك الحب والعطاء؟
قالت: وتعجب . . ؟ لماذا تعجب وانت لاهٍ بقلبك عني وعن سعادتي او حتى اشعاري بجدوى حربي معك ومع الايام من اجل ان انثر تلك السعادة في دربك؟
قال: لم أتأخر عن الوفاء بحقوقك يوماً . . . وكنت دوماً الزوج المحب الذي لا يرفض لك طلباً . . .
قالت: أو تظن ان السعادة حقوق وواجبات وحبر على ورقة صماء؟ السعادة لا تعرف المقاييس والارقام، فهي احساس يورق في القلب طيوراً وفرحاً، وانت بعيد بقلبك عني، بعيد بجسدك حتى بت لا اعرف لون وجهك، كالنجم الساطع في كبد السماء ينشر ضوءه في سماء واسعة دون ان يصلني من شعاعه ما يحرك في القلب اي نيزك . . .
قال: تظلمينني، وتتخيلين اموراً لا وجود لها . . . فكل مشاعري وحبي هي لك وحدك…
قالت: اتخيل . . لا . . فقلب المرأة دليلها . . وشعور الزوجة لا يخيب ابداً، اصبحت كلما مستني ذراعيك أشعر وكأنهما تحضنان اغصاناً غير اغصاني . . . وان لامست اناملك شعري تلونت خصلاته بالوان غريبة وسرى في مسام رأسي عبير غير عبير شعري . . .
وإن نظرت الى وجهي عيناك مرت دون الوقوف عند عيني وكأن نظراتك تمر على لوحة معلقة على الحائط منذ الازل، لا تثير رموزها قلبك، ولا يستهويك اكتشاف اي جديد فيها…
قال بحنان: سلمى، لم يعرف قلبي غير صورتك منذ عرفتك . . فهي محفورة في القلب الى الأبد.
قالت: دع عنك هذا الكلام . . دعه لغيري، لقد مضى دهر لم أنل من شهده قطرة . . حتى جهلته.
قال: عجبي! كيف الوصول الى رضاك؟ ان فاض كأس مشاعري في جلسة صفاء استهزأت نظراتك بمخارج لفظي. وان سكت . . قلت انني بعيد القلب ضنين الاحساس والمشاعر . . .
قالت: لانك صمت دهراً ونطقت شعراً يا عزيزي . . . انك عودتني ان الحب يجب ان يبقى حبيس القلب قصير اللسان . . كنت تقول: ” ان كثير الكلام في الحب قليله”، وان “مشاعر القلب تترجمها الشفاه تصبح فقاعات تافهة تتلاشى في الهواء”. . .
قال: هكذا اذن؟ كل ما قلته لك الآن فقاعات تافهة لم تلامس احرفه شغاف قلبك او تصل كلماته حجاب عقلك؟
قالت: وتلومني وانت استاذي . . ان قلت ان للكلمات ضجيج فقاعات خاوية . . وتلومني ان لم افقه من حديثك نغماً واحداً لم يصل الى القلب بصدق . . فاليوم بتُّ افهم ما يقال وما لا يقاس باحساسي فقط . . بنبضات قلبي التي تحضن درر الاحساس وترفض النغم النشاز . . .
قال: لم تتغيّري! ما زلت تتعبين راسك في متاهات الحب الفلسفية. دعك من ذلك وعودي بسيطة كالزهرة التي تعطي من عبيرها دون حدود.
قالت: ما زلت انثر الورد والريحان بين يديك ببساطة وهدوء . . ولكن لا تطلب من قلبي الرضوخ فهو لم يعد ملك عقلي حتى احرّك خيوطه كيفما شئت. فقلبي الذي كان وسيلتي اليك حتى جعلك القمر الذي اسعى اليه في وضح النهار . . والشمس التي استضيء بنورها في احلك الليالي . . هو نفسه اصبح الجسر الذي يفصل بيني وبينك . . !
قال: يحزنني حديثك . . ويدمي قلبي برود قلبك الذي أحبني يوماً حتى ملأ عيون الشمس باسمي . .
قالت: تقول عودي الي الآن . . تودّ ان تشعل نار حب قد ذوى . . ونار حبك القديم في اي جبال من الجليد دفنتها طيلة تلك السنين . . ؟ وقلبك الذي تغنى بكل كلمة . . بكل همسة قبل ان ينطق بها لساني . . هل واريته التراب ام سجنته في خزانة مصفّحة طيلة تلك الشهور والأيام..؟ اين عيناك اللتان كانتا تحتويانني بين رمشيهما حتى تصل نظراتك الحنونة الى اعماق قلبي، تخترق مسام جلدي، تقرأ بنات افكاري، فأستكين بين يديك ويصبح الحديث بيننا لحناً صامتاً لا ينتهي . . .
قال: عدتِ الى زخرف الكلام وشعره . . عودي معي الى الارض الصلبة وكفاك الابحار في السماء. . . وكفاك الابحار في السماء . . فعلى الأرض نزرع كل يوم وردة ثم نشرب رحيقها في الصباح. . ولكن مع احلام الحب السابحة في السماء تموت جذور الوردة العطشى. عودي يا سلمى وسأكون من الآن معك ولك بكل دقيقة من دقائق عمري . . .
وسرحت سلمى ببصرها بعيداً بعيداً، وكأن بعض كلماته تسرّبت الى قلبها المحصّن بالجفاء والقسوة. . ثم تمالكت نفسها ونظرت اليه نظرتها الواثقة الثاقبة قائلة:
يا عزيزي فؤاد . . بالأمس ملكت قلبي الطفل بنظرة وكلمة، واليوم اتركك له . . للخافق الصامت في وجل . . فهو الآن الجسر الفاصل . . بيني وبينك.