قديسة المدائن
أو
الطريق المسدود
يا قديسة المدائن . . يا قدس العالم اجمع . . كم يؤلمني واسمك اصبح بضاعة نتاجر به، نساوم فيك وعليك.. نبعث فيك الروح كل يوم . . نقتلك كل يوم . . اشجار الزيتون جللها السواد.. اجراس كنائسك تستقبل الصباح بالنغم الجنائزي . . والمآذن تنعي . . تدعوننا الى النواح . . وابناؤك يقتلون . . يقتلون . .
يا قديسة الأزمان والأديان . . تحت قبابك يرقد قديس وولي . . وشوارعك الخاشعة، تنساب كينبوع سلام . . تحت سمائك يشعر الانسان بقربه من الله، لحظة بلحظة يعيش معه، يحاوره يمنحه الحب والبركة في عمله وزرعه . .
يا قديسة المدائن سلبوا الطهر عن اسوارك الطاهرة العالية . . سلبوا النوم من عيون اطفالك . . سرقوا الراحة من عظام الأقدمين في قبورهم . . يا سماء ارحمي قديسة يرغمها الطغاة على الزنى كل ليلة.. اعيدي يا سماء للقدس سماءها الطاهرة وأريج شوارعها القديمة. . لاشجار الزيتون لونها الاخضر يضج بالامل . . اعيدي للقدس قدسيتها . .
وتعيدني الايام لقصة كتبتها . . لواقعة حية عشتها وانا على بقعة من ارضك الطاهرة اركع . وعيناي تنظران من بعيد الى باقي جسدك الممزق .. اصلي كل يوم كي يعود لجسدك الممزق صخرته وقيامته . .عندئذ كانت الاعياد مهرجان لقاء وفراق . . بكاء ودموع . . تدخل الجموع بالآلاف من بوابة مندل بوم، للصلاة في كنيسة القيامة ولقاء الاهل بعد فارق سنين . . فيقطع البعض آلاف الاميال للقاء الاحبة وقضاء يوم واحد معهم . . يوم العيد . . عيد ميلاد المسيح . . ويصبح اليوم الموعود مخضباً بالآهات والدموع . . ويمر كلمح البصر سريعاً، ومندل بوم يبتلعهم . . كأتون نار . . واليوم تاكلهم نار المذلة كل يوم . . لم يعد يفرحهم عيد او يبكيهم . . . جفت دموع الفرح والالم في المآقي . . والليل مظلم مظلم . . والاقصى والقيامة يستصرخان لنيام . . متى تعود شوارع القدس تضج بالفرح . . . متى يا قديسة المدائن. .
كانت تقف مع الواقفين . . وراء الاسلاك الشائكة، وعيناها مشدودة الى ذلك الشارع البعيد . . الطريق المسدود . . .
ورفعت الاسلاك الشائكة وانهمر الناس كالنهر الهائج، تتلاطم امواج البشر في عناق طويل . . وزاغت عيونها، تكاد تقفز من محاجرها تبحث بين الوجوه المتهجمة عن وجه ستضمه طويلاً الى صدرها الواهي . . تبحث بين الاجساد عن جسد حملته طويلاً بين جوانحها.. ودفنت عمرها بين ايامه . . طال انتظارها وكأن الدقائق عام بأكمله، وغشى بصرها دمع انهمر على خديها ليغسل خطوط الزمن عن وجهها ويعيد الحرارة والحياة اليه . . مسحت بخفة دمعها بشالها الاسود الطويل ودثرت راسها وكتفيها النحيلتين به كي تتقي لسعة الصباح الباكر. . وتذكرت ان هذه لحظات لقاء وفرح، فلتترك الدموع جانباً . . لتنسى انها سوف تبكي في وحدتها حتى يملكها البكاء . . .
وفجأة اشتعلت عيناها بنور عجيب، وصلت ابنتها الوحيدة . . . كم ابتهلت ان ترى نظرات الحب في عيني ابنتها ولو مرة ثم تموت . . كم كانت تخشى الموت دون زاد من الحب تأخذه معها . . . والتحم الجسدان في رعشه بكاء ونشيج . . . وامسكت الام بيد ابنتها، خوفاً من ان تفلت منها تلك اليد ولا تعود، واحتضنت الابنة كتفي امها وكأنها تحييها من ظلام أيامها . . ونسيت الاثنتان كيف الكلام . . كل الكلام والقصص التي رتبتها في ذاكرتها لترويها للاخرى.
سارت الواحدة قرب الاخرى وكفاهما في عناق طويل . . تنظران خلسة والفرح باللقاء يسري كتيار من نار يشعل قلبيهما. . ثم تغمرهما قشعريرة باردة وظلام الخوف من ساعة ستأتي، يعقبها فراق طويل . . . وتكلمت الام اخيراً فكانت كلماتها مبعثرة تائهة . . بقيت تثرثر هكذا، لتبعد عن مخيلتها ومخيلة ابنتها كل صورة تذكرها بلحظة الفراق . . كانت سعادتها لا توصف وهي تشعر بدفء تلك اليد في راحتها . . وهي ترى نظرات الحب في عيني ابنتها ترنو اليها خلسة . . وكم هالها ان ترى خطوط الايام، تزحف على وجه الحبيبة . . ودت ان تمحو تلك الخطوط بدمعها . . بيدها المعروفة النحيلة.
وابتلعتهما الأزقة الضيقة في القدس القديمة . . كما ابتلعت الالاف في طريقهم الى كنيسة القيامة . . في تلاحم عجيب لقوميات مختلفة . . واجناس مختلفة . . كلهم يسير نحو هدف واحد . . للكنيسة، للصلاة والابتهال الى الله. وعند المذبح ركعت والام وابنتها، وتشابكت الايدي في خشوع، تضرع الى الله ان يجمعها في لقاء لا فراق بعده، يجمعها السلام في أرض السلام…
ومرت الدقائق والساعات . . وكأنها ثوان من اللذة وسنين من الترقب والخوف . . وجاءت ساعة الصفر . . ساعة الفراق . . فتأبطت الام ذراع ابنتها، تعتصرها بألم، لتطفئ النار المتأججة في أعماقها . . وامسكت الابنة يدها الصغيرة تعتصرها بقسوة، تصب حقدها تمزيقا بها . . كأنها هي الاسلاك الشائكة، هي الايام والليالي تسرق تلك اليد الحنون منها . . تحرمها الاطلالة الحبيبة من عيني أمها . . .
ووصلتا طريق الامل والشقاء . . طريق الابتسام والدموع . . طريق الغفران والذل . . واجتمع حشد غريب متنافر، والكل في ترقب مزعج. الاطفال يبكون لرؤية الالام والدموع في عيون امهاتهم . . . والشيوخ يضرعون الى الله ان يعيد للقدس وجهها الحبيب.
ضمت الام ابنتها الى صدرها الواهي، تمنحها من ضعفها قوة وصبراً . . واحتوت الابنة الجسم الهزيل بين ذراعيها تود لو تحميه من قسوة الايام، ومشت خطوات ودمع احمر يكسو ناظريها ثم عادت لتضم امها ضمة أخيرة وهي تشهق بالبكاء، بكاء مرّ كمرارة أيامها . . كمرارة غربتها وهي على أرضها. . وابتعدت وقبل ان تصل الى نقطة اللاعودة من مندل بوم، التفتت لترى شبح امها ملفحا بالسواد يلوح بيد ممدودة للسماء . .
وعادت الام الى بيتها الحزين، تشاركها وحدتها في الايام والليالي، والظلام يخيم على البلد المقدس.. والمطر ينهمر بغضب، يشارك الناس حزنهم في ابهج ايام السنة. . وخرجت الى شرفة صغيرة، وقد أحاط الكون ظلام موحش، والاشجار حزينة صماء . . تعيش في عقم دائم، في تلك الرقعة المسماة . . منطقة الحرام . .بقيت ترتعد من برد الليل القارس، ومن صقيع يغلف قلباً اقتلع التعب والمرارة الحب فيه من جذوره . . بقيت في الشرفة ترتعد برداً ووحشة. . حتى رأت النور يضاء في بيت ابنتها عبر منطقة الحرام . . قريب . . بعيد . . بعيد بيت الحبيبة.. هكذا كل ليلة تنتظر ذلك الضوء، يظهر ثم يخبو . . في ترقب ولهفة يضيع عمرها، والظلام يزيد من وحشتها وعذابها . . وفي المساء تدفن دمعها والامها بالنوم . . وتحلم كل ليلة.. يغمرها الامل كل ليلة .. سترفع الحواجز وتحرق الاسلاك، وتثمر الاشجار بعد عقم طويل . . وتعود كأيام صباها تقطع المسافة، مرات في اليوم الواحد . . تسير بين الأشجار المكسوة بألف لون . . تسلي نفسها بترنيمة قديمة تعلمتها وهي طفلة صغيرة . . ستضم يد ابنتها في الاحاد وتذهب للصلاة.. وتشرق الشمس من جديد وتعود البسمة للشفاه ويورق في عينها الفرح . .
وقامت حرب 67 . . ومع اخبار النصر الوهمية خرجت من بيتها لتقطع الاسلاك باظافرها، وعلى شفاها ترنيمة الخلاص . .
وصعقتها رؤية الصهاينة، (بسحنهم؟؟) الصفراء . . تقطع الاسلاك والاشجار بيد، وباليد الاخرى تقتل الاطفال . . تقتل الاحلام والامال . .
وهراوة غليظة على رأسها هوت . . اخمدت ترنيمة الخلاص في شفتيها.