الفصل السابع
وانقطع مدين إلى المارستان أياماً. تأتيه رنجهاد كل يوم ولا يعود إلى بيته. وتذهب إليه هند بطعامه كل يوم. وتعود فتقول: إنه قد احتبس في بيت الدواء. فهو لا يخرج منه حتى يركب عقاره. وعلمت ليلى أنه سبقها وبعُد ما بينها وبينه، ونبا كيانه عنها. وذهبت نفسها عليه.
***
ثم جاءها ليلة وقد كادت تقنط فتخرج فتسيم. وقال:
الليلة النهاية يا ليلى.
وأقبل عليها إقبال المتشوق البعيد الشوق. فلقيته بوجه ملأته الآلام امتلاء الشراع ريحاً، وقالت:
أنهايتنا معاً أم نهايتك وابتدائي؟
قال:
نهاية الباطل وابتداء الحق.
وسكتت ليلى (…) كالبيت المتهدم تساقط جدرانه في جوفه أنقاضاً. ثم قامت وقد ثقلت عليها الليلة كما يثقل الإثم على الآثم النادم. فقالت:
ألا نخرج إلى فناء البيت؟
وخرجا فجلسا. وكانت الليلة قمراء وضّاحة الظلمة بيضاء. كأنها في رغوة حليب، أو زبد سحاب..
وقالت ليلى:
إنه ليس من باطل يا مدين إلا ما فسد من نفسك، ولا من حق إلا ما صدق منك. وقد كدت أن تبطل كل شيء…
قال:
لأني رأيت (…) الفكر والعلم كالسدود تقام وتجعل لها الحكمة والعقل أساساً، فتنتصب واقية الوادي من جرف السيل، والحياة من الجنون…
قالت:
وهو عندك باطل والوقوف عند السد جبن؟
قال:
نعم يا ليلى. ولقد خلق الإنسان هلوعاً، يجبن ولا يقدم، فيفوته الغيب فوتاً. ويخشى أن يفسد عليه المعقول، فيتخذ العقل ترساً يدفع به الخيال كمسموم النبل دفعاً. ولو أقدم فطلق من سجون المعقول لوقع له الحق وسقط الباطل وجاء الشفاء وكانت البراءة.
قالت:
بل يكون التيه يا مدين، وإن غير المعقول لغول داهية جموح لا يمارَس شديد.. يذهب بك ولا تثنيه ولا تقدر عليه ولا ينحصر لك ولا يُحَدّ. وما لا ينحصر لا يُدرَك. وإنما أنت تتيه فيه وتتبدد. لذا حبستنا الأقدار يا مدين على العقل وشدتنا إليه، حتى لا نضل السبيل.
قال:
ما ربطنا ولا حبسنا يا ليلى. وما هو إلا أننا نسينا سبيل الإطلاق الجنون، وخشينا الدوار يورثه تجاوز العقل
وطبع البشر. فأغلقنا آفاقنا، وقصرنا مدانا، وأدنينا كالأعشى أقاصينا. وإنما العقل عقال.
قالت:
هيهات أن يطلقني من أصفاده يا مدين.
قال:
أما أنا فقد طلقت يا ليلى، واهتديت إلى سبيل المطلق المحض والحياة الأبد. وباح لي غاب رنجهاد بسرّه.
قالت:
وكل كائن عندك له سر وخافية. كأنك صاحب الشُّرَط يرى الرجل فيظن سوءا. أليس في الكون ظاهرة صادقة؟ ألا يكون صريحا؟
قال:
لا يا ليلى. في الكون كله وهم وغش وكذب وخدعة.
قالت:
وأين ترى عينك غشا؟ أين ترى كذبا وخدعة؟
قال:
في الريحانة تذبل، وفي الشمس تغرب، والحب يُسلى.. في الموت.
***
وسكتت ليلى هاوية. وأمسك مدين ساعة، ثم قال:
هو الدلس يا ليلى. وليس أشد على المرء من أن يتصور المستقبل لعينه ذكرى، وكأنما قد مضى ولم ينس أشد من الزمن يسخر منك، وأن تموت وتبقي حيا، وأن تهمس الساعات إليك في كل لحظة: أنا التضليل والخدعة.. ولقد دلست عليَّ الدنيا من سن العشرين يا ليلى.
وقام مدين ثم قال:
ولكنها لن تدلس اليوم ولن تستطيع سبيلاً
وصاحت ليلى وكأنما انقض عليها شك أو لدغتها حية:
ما أنت صانع؟
قال:
إني لشارب عقّارى، فخارج من دار إلى دار.
ودخل الغرفة. فما قامت ليلى وأدركته حتى صب العقّار وشرب. فتعلقت به وفاضت بكاء وقالت:
أرضيت بالخسران؟ أتريد أن تقتل نفسك؟
فاحتملها إلى الفناء وقال:
إنما أنا قاتل ظلاً فزمانا وموتا، فبالغ سرمدا وخلودا
قالت:
ماذا شربت؟ بأيّ سمّ قتلت نفسك؟
قال:
لا سمّ اليوم ولا قتل نفس. هو الدواء دوائي بيدي اليوم ركّبته.
***
وأحسّته قد فاتها، فعلا صوتها بكاء، وتحاملت عليه تغشاه، وطوّقته يداها وقالت:
حدثني يا مدين آخر أحاديثك.
قال:
هو حديث المستحيل يرغم على الإمكان يا ليلى. احتجت أول أمري أن أتصور ما يستحيل تصوره وأتعقل ما لا يعقل، فلقيت عناء طويلا. ثم ذكرت حياتي وبطلانها، ورأيت ما رأيت في الغاب من عذاب الظلال وخستها، وآلام الأموات لم يبلغوا الفناء وذلوا للزمان وطغت بهم الذكرى. وأدركت ما أدركت من مصيري لو لم أمض في سبيلي حتى إبلغ العين. فخف عنائي وانكشف الإشكال وتيسر الأعسر. ثم نظرت فإذا ما كان يفزع منه عقلي قد بان كالفيض وتصور بديها، فانفلق في نفسي منه ريح جنون زعزعا. ثم علوت ذلك فجرت في قلبي الطمأنينة ماء هادئا. ووقعت لي سبيل الحركة الحرة المطلقة مطهرة من الزمان متبددة في ذاتها جامدة. وبأن لي سر تركيب الدواء فركبته عقارا يحنط الجسد الحي فيخلده كالمومياء..
وقام مدين كالآلة تحرك فيها دولاب. فإذا نور القمر جميعا على وجهه. كالجمال يشتد على وجه الحسناء تموت. وقال:
هذا الأبد يا ليلى. هذا النسيان، هذا الخلود.
(… )
إني أجدني وضّاحا، وأجد بي نورا. وقد أمطرتني السماء ماء صفاء. وطهرتني فأنا نظيف كنصع نظيف. وقد عادت لي عظمتى وطهارتي وجمالي.
ومشى مدين خطوات يريد الخروج، فاعتلقت به ليلى وهزّته هزا، وصاحت:
يا مدين، أفق من غشيتك يا مدين.
وأحسّ بليلى فقال:
دعيني. من أنت؟ دعيني.
وتخلص منها فتقدم في سبيله لا يراها ولا توقفه، وقال:
إذا جرؤت فأطللت على الهاوية، فالهاوية لا تجرؤ أن تطل عليك.
***
ثم وصل إلى باب الدار، فوقف مصيخا كمن أصاب صوتا. وقال: اسمعي.. إنها أجراس الجلاجل ذات الجلجلة، ألا تتسمّعينها مبتعدة هاربة؟ إنها الأيام وأسماء مولية ذاهبة، تصوّت الجلاجل في أعناقها، والراعي يسوق ويسوط قطعانها… إني الآن الحق في حقها…
وسقطت عنه الذكرى، وفسدت عليه الحافظة. ونسي أنه هو وأن امرأته ليلى. ومات عنه كل ما مضى من سابق عمره. وأقفر قلبه وخلا، فظن أنها الطمأنينة والسعادة والأبد. وامتدت يده بلا حسّ إلى يد ليلى، فجعلتها على صدره وصاح:
انظروا. فهذا قلبي سكت، وقد غلب السكون الزمان. أنا لا أمرّ ولا أحُول: أنا الوجود، أنا الخلود، لم أستحل منذ القدم… لكن من أنا؟ أولد كل ساعة خلقاً جديداً. انظروا آفاقي تناءى، فما أوسع أبعادي! ها سكن عني الحس وآن الحلول. وعظمت وشربت السماء وحلّت فيَّ الأكوان جميعاً…
وتدفقت الأكوان فانصبت فيه، وتبدد هو فيها. وخرج من البيت مائجاً كالدخان، فقام في وجهه الغاب والأشجار وزبد القمر يعلوها: ونظرت ليلى فإذا رنجهاد على شفا الغاب واقفة تنظر، كأنها علمت بما كان فجاءت وجرت إليها ليلى وصاحت:
يا رنجهاد ارحميه وأغيثيه. إنه ليكتفي بحياة كحياة آبائه.
عين. كالقسوة توبس النفس. وذعرت ليلى فارتدت فأسرعت إلى مدين، وخطا خطوات ثم وقف وقال:
ما هذه الريح الكريهة تخنقني؟ أتعفن الهواء أم تعفنت أنفاسي؟
واشتد به النتن، واضطربت حركاته، فاصطك وصاح:
ألا خلاص من هذا العفن الباطن، وهذا الدود يتحرك فيَّ كالجنين في الحامل؟ ما هذا الوهن يهوى بي، وهذه الروح تداعى وتنهار…
وسقط على الأرض، فصاحت ليلى بهند ألا انظري هل بقي في الزجاجة من عقاره.
ثم وقعت إلى مدين مندكة القلب ولهى. وكأنما استيقظ مدين لطرفة عين وذكرت عيناه ليلى، فهمس منهوك النفس:
هي النهاية يا ليلى. لقد خاننى الجسد، وخانتنى الروح. فلا هو استطاع الخلود، ولا هي…
وخرجت هند وأقبلت تجري كالذاهبة العقل وما تدري، وقالت: لم يبق في الزجاجة شيء.
ورفعت ليلى صوتها بالعويل، ودفع مدين آخر أنفاسه فقال:
لم خانني الجسد وخانتني الروح يا ليلى، ما قعد بي وبدوائي يا ليلى؟ وشخصت عينه وغص، فسكن واسترخى.
***
وهتفت رنجهاد قاسية ساخرة: ما الذي قعد بك يا مدين !…
ثم لوت فاسودت، وظهر لها جناحان، فنهضت وصفقت، ودخلت عالمها الظلمة، وقالت:
ساعة من النسيان بحياة كحياة آبائه، وبليلى أخلفها بعده بين الأحياء ميتة … إلا أن الوجود اللعنة الأبد. لن يولد النسيان. لن يولد الفناء. لن يغلب الزمان. لن تدرك السماء أنا البهتان…
وطارت روح مدين فلحقت عالم الأموات، وروح ليلى فلحقت كهف الظلال.
***