(إلى من تَجَرّع من خمرة الشّيطان حَتّى ثمالتها، ومن سَوّلَت له نَفْسه الدّوس على كرامات الأبرياء الأطهار أرفعُ بروقي هذه.)
وأطْلِقت صافرات الباخِرة معلنة اقلاعها من مرفأ نيويورك ووجهتها مدينة جنيف.
نحن الآن في العام 2999 والقتال المُحْتَدِم لا يُبْقِ ولا يذر، على إثر اندلاع الحرب العالميّة الثّالِثة.
لقد ساد النّفاق والإباحيّة السّاقِطة اللعينة الأرض بِرجسها حتّى بات لا خلاص، والفقر المدقِع ألقى بِكاهله على أرجاء الغبراء كافّة؛ فالويل لِساكِنيّ الأرض إن لم يعُد كل واحِد لِتعاليم دينه حيث الخلاص الوحيد... أجل، الوحيد.
هنالِك في إحدى غُرف السّفينة، وفي إحدى نخاريبها تناهت إلى أذنَي الفَتاة أصوات غريبة، هامِسة كأنّها اللؤم المُتجَسّد بِحِدّتها الخافِتة، وإذا بجسدها يتَحرّك تلقائيّا لتُلْصِقَ أذنيها بالباب وكان هذا الحوار الرّهيب:
الصّوت الأوّل: "نحن واحد، كأننا من بعضنا البَعْض أليس كذلك؟"
الصّوت الثّاني: "وهل كنّا ننتظر غير ذلك؟ ها.. ها.."
- "ثُمّ بعد"
- "قطيعة نَفْسيّة تامّة"
- "ماذا تقصِدين؟"
- وهل غير المُجافاة البالِغة القَسْوة، ألا تعْلَم أنّه يتيم؟"
- يا لكِ من وغدة، أجل إنّه يحتاج لِذلك الحَنان؟"
- "حَسَناً، ولكن لا تنسَ أنّه جَبّار بإيمانه"
- "كَفى، كَفى لا يجب أن تَذْكُري هذا الأمر، أنَسيتِ أنّ أجسادنا تقشَعِر لِذِكر القُدوس"
- "نعم لكن علينا أن نُنَفّذ مُهِمّتنا."
- "وهي؟"
- "ألا تَعْلَمْ أنّه علينا أن نُعَزّز علاقتنا ببعضِنا نحن الإثنان؟"
- "أي أن لا نَخْسَر مَرّة أخرى."
- "ألا تعْلَم أن عددنا يفوق العَشَرات؟"
- (بِقَسْوةٍ) "نعم ولِهذا يجب أن نُعَزّز من ثقتنا كَيْلا نَدَع له الفًرصة الثّانية... أشْعُر بأنّه مُحَطّم، إنّه يريد الحنان إنّه عاطِفي"
- "إذَن أقوم بِمُراقَبَته بِمُجافاة أسير حيث يسير لأتأكّد أنّه هو."
- "سبَقْتِني لذلك، ولكن نستطيع ذلك دون الإقتِراب مِنه"
- "ألا تعلَم بأنّه يَخْلق من الشّبه أربعين."
- "نعم ولكن يستطيع المَرء تمييزه عن بُعْد تماماَ؛ لا أريد أن أكبّدكِ العناء.
- "سأشْعِره، بأنّه غريب سأجافيه مجافاة الموت الأحمَر. أمّا أنت يا رَجُل فعليك بِتَصَنّع الإهتِمام."
- "وإذ ذاك لن ندع له مجالاً للهروب، إمّا أن يموت من الضّيق النّفْسيّ أو الإغماء؛ فإمّا النّصْر أو الذُلّ المُبين. ألا تعْلَم ما قاله سيّده، إن ألَدّ أعداء المرء هم أهل بيته؟ فيا للصّدفة! نحن أقرباؤه"
- "هَب أنّه أعلَم أصدقاءه عن أعمالنا، لأنّه سيشعُر بمضايقتنا أليس كذلك؟"
- "إنّ أعمالنا لا يَعْرِف بها أحد، إنّ الأمر معلوم عنده لأنّه كَشَف أمرنا، أمّا نحن فَسَنُمّوه قدر الإمكان ناكِران ذهابنا اليوميّ المتبادل في الطريق الذي يسلكه، لن نُهديه سوى الضّيق النّفسيّ. عندما يسألني أحد عن سبب اجتيازي ذلك الطّريق، أجيبه بأنّه انتهى دوام عملي في الوقت المحدد كالعادة، وعليّ أن أزور أحد أنسبائي. وهكذا ينتهي الأمر دون أن يعلَم أحد على الإطلاق"
- "يا لكَ من أفّاك، لدينا فِكْرٌ واحِد!"
وفجأة فُتح الباب عليهما وإذا بَفتاة سمراء حسناء يُشِع النّور من مُحَيّاها فبادرتُهما بالحديث قائلة: " ظننتُما أنّكما تمكّنتما مِنّي وهيهات أن تتمكّنا مِنهُ، لماذا كُلّ هذا أعْلِماني بِحَقّ الله؟
نهض صاحِب الصّوت الأوّل رافعاً يَده ناثراً عملات نقديّة جعَلَت تتساقط في وعاء كبير.
الصّوت الثّاني: "من أين أتيت بهذه العُملات؟"
الصّوت الأوّل: "من المَصْرِف الذي يُعْطي الجميع، من مَنبَع العُملات، من باعِث الآمال في النّفوس."
وضَحِكا بِسُخْرية.
وفجأة ظهر مخلوق غريب على التّلفاز يقول: "آمركما الآن بِمغادرة الغُرفة."
أحد الأصوات ساخراً: "لن تراني هنا إلا ليل نهار."
قال الصّوت الثّاني: "ألا يُشْبِهه، كأنّ توأمه؟"
نظرا عبر النّافِذة ليًشاهدا مدينة جنيف، لقد ظهر المرفأ أمامهما. تُرى كيف وصلا في ساعات قليلة، فالرّحلة يجب أن تَسْتَغْرِق أيّاماً!!
قال الصّوت الأوّل: التّاريخ يُعيد نفسه، إنّها السّفينة المَدْعوّة ماري سيلِستِه Mary Celesteالتي عجز أكبرالعلماء عن حلّ لُغْز اختِفاء طاقمها بِرُمّتهم عام 4-12-1872 حسْبما أذكُرْ
.
وفجأة سُمِع صوت ملائكيّ رخيم لِرجُل قائلاً: أتُريدون معْرِفة سِرّ اختِفاء طاقمها؟"
وفي تلك اللحظة ارتفع الشّخصان في الهواء مخترقان السّقف.
وإذا بالحبيب يظهرلِحبيبته، وكأن شيئاً لم يكُن وهدير المركبة الفضائيّة تملأ الأرجاء تمْهيداً لنَقْلِ صاحِبَيّ الأصوات المُبَجّلين إلى دركة جحيميّة حيث زبنايتهم بانتظارهم.
وجد الشّاب والفتاة نفسيهما على أرض المرفأ.
قالت له: "عودة الإبن الضّال"
وقد بدَت المركبة الفضائيّة التي سحبَت الوغدين كالنّجوم المَحْفورة في كَبد السّماء، وكانت مُنعَكِسة على عين الحبيبة.