أمّة بَحرية أَسَرَتْها أسطورة الصحراء

من المفارقات التي تحفل بها الثقافة الشائعة حول السمات الأساسية للعرب، شعوباً وقبائل، أنها تنسب إليهم كل ما هو صحراوي في اللغة والفكر والعادات والاتجاهات النفسية، في الوقت الذي تؤكد فيه سمتهم البحرية بوصفهم سكان جزيرة تحيط بها المياه من جميع أقطارها كما ذكر الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب»، وكما تعرف جمهرة واسعة من الجغرافيين.
قبل تسمية هذه الرقعة الجغرافية باسم «الجزيرة» وما يعنيه هذا وما يعكسه من علاقات بالبحر، هنالك ما هو منطقي؛ فتغليب الصفة البحرية على سكان الجزر، كبيرها وصغيرها، أمرٌ منطقي، قبل أن تنشأ هذه الصفة في وقت حديث نسبياً لأسباب عسكرية وسياسية كما يقال، بسبب الصدام مع «بيزنطة» في حوض البحر الأبيض المتوسط. ومنطقياً أيضاً، ليس من المعقول أن يعيش أناس جزيرة تطل على بحار وخلجان وأنهار من دون أن يختبروا، أو تختبر غالبيتهم المجاورة للسواحل، البحر وآفاقه منذ أقدم الأزمان.
ليس المنطق وحده هو ما دفع الجغرافي الألماني «إيرمان» منذ القرن الثامن عشر إلى كتابة هذه السطور:
«في تلك الأزمان التي كانت أوروبا فيها غارقة في سباتها، كان العرب يعتبرون أمة ماهرة ومتمرسة ومحبة للتجارة البحرية».. بل دفعه انكشاف هذا الجانب المجهول من السمات العربية أمام أنظاره. وأضافت المكتشفات والأبحاث الحديثة منذ عشرينات القرن الماضي أدلة قوية إلى هذا الكلام، أتاحت لعلماء الآثار القول إنه يمكن افتراض قيام سكان الجزيرة العربية برحلات بحرية إلى الهند وأفريقيا منذ الألف الرابع ق.م، ولم يلبث هذا الافتراض أن أصبح واقعاً موثوقاً به منذ خمسينيات القرن العشرين. واستعاد الباحثون ما كان يعتبر نصوصا كلاسيكية شبه روائية، وقرئت في ضوء جديد تسنده نصوص منقوشة على الحجر والطين. نصوص الحضارات التي ظهرت تحت معاول المنقبين في أطلال المدن القديمة. هنا التفت الباحثون إلى ملحوظات «سترابون» اليوناني «64-24 ق.م» عن قبائل الجزيرة العربية التي لم تعش على الزراعة وتربية الحيوانات والحرف فقط، بل وعلى التجارة البحرية مع أفريقيا وحوض المحيط الهندي.
وبعثت نقوش اليمن، ونقوش شمالي الجزيرة، والمصادر البيزنطية، إلى الضوء صفحات كانت مجهولة حتى وقت قريب عن موانئ الجزيرة العربية الشرقية والجنوبية التي حولت المنطقة إلى عقدة مواصلات للعالم القديم، وعلى هذه العقدة تنافس بل وتحارب عدد من الإمبراطوريات مثل البابلية والآشورية والفارسية والمصرية القديمة، ثم اليونانية فالرومانية، وصولا إلى الإمبراطوريات الغربية الحديثة.
وتكاثرت النصوص العائدة إلى القرون الميلادية الأولى، وكشفت عن شبكة بحرية غارقة في القدم أقامها العرب بين مدغشقر وسومطرة مروراً بسيلان «سريلانكا الحالية» كانت تجارتها الطيوب والخشب والذهب، كما كشفت عن مراكز لبناء السفن وتصديرها ممتدة على طول سواحل الجزيرة.
ربما لهذا السبب ظلّ أهل سيلان يطلقون على العرب لقب «البحارة» حتى أصبح اسم علم دال على أمّة بَحرية أَسَرَتْها أسطورة الصحراء 68-70

أمّة بَحرية أَسَرَتْها أسطورة الصحراء 68-70

العربي. وربما لهذا السبب نجد جغرافياً يونانياً في سنوات سبقت بداية التاريخ الميلادي يقول «إن أهل سبأ أغنى من في العالم». ويقول بلليني الأكبر الروماني «يعيش العرب مما تعطيهم البحار..».
٭٭٭
في الانتقال شمالا، ومع طرق القوافل البرية، وبخاصة طريق نجران- الجرعاء شرقاً، وطريق العطور الممتد من عدن جنوباً إلى الشام شمالا بمحاذاة جبال الحجاز، سنجد شبكة بحرية عربية أخرى على امتداد حوض البحر الأبيض المتوسط حيث تنتشر الأساطيل الكنعانية على امتداد شواطئه منذ الألف الثاني ق.م ، وتنشأ مدنٌ مثل قرطاجنة على ساحل تونس الحالية والعالية في جزيرة سردينيا وقرطاجنة الجديدة على شواطئ إسبانيا، وصولا إلى أعمدة ملقارت «جبل طارق»، ومن هناك يمضي الكنعانيون نحو استكشاف مناطق جديدة شمالا وصولا إلى الجزر البريطانية، وجنوباً بالدوران حول القارة الأفريقية.
شبكتان بحريتان كلتاهما على جانبي الجزيرة العربية؛ حوض المحيط الهندي شرقا وجنوباً، وحوض البحر الأبيض المتوسط شمالا وغرباً، مما يشير بوضوح إلى أن صفة الأمة الصحراوية لم تكن إلا صفة حديثة نسبياً ولدت بتأثير ثقافة شريحة صغيرة من شرائح الأقوام العربية البعيدة عن السواحل. هذه الشريحة هي التي تغلبت لهجتها وثقافتها وذاكرتها بعد انهيار الحواضر العربية ، فأغفلت تراث البحر ومعجمه، إلا من ألفاظ قليلة، وأسقطته من مروياتها. إلا أن هذا التأثير لم يقيض له أن يظل قائماً إلى الأبد بعد بروز التراث البحري الغائب والأكثر ضخامة من تراث الصحراء.
إن ما حدث من تطور في الملاحة العربية بعد الإسلام لم يأت من فراغ، بل استند إلى تراث ضخم أتاح للعرب السيطرة في وقت قصير نسبياً على شرايين التجارة الدولية في البحار المعروفة في زمنهم. صحيح أن التطور الملاحي في حوض البحر الأبيض المتوسط في القرن السابع الميلادي وجهته ضروراتٌ سياسية وعسكرية «إذ كان على العرب مواجهة التحدي البيزنطي» إلا أن المرمى النهائي كان تأمين شبكة التجارة المرتبطة بموانئ جنوبي الجزيرة والطرق البرية، فنهضت في عكا دارٌ لصناعة السفن، ونهضت دور مماثلة في الاسكندرية ودمياط وتونس، وامتد النشاط البحري إلى الأندلس بين المرية وقادش، الميناء الكنعاني القديم. وصارت الأساطيل العربية قوة سياسية وعسكرية وتجارية وثقافية حاسمة لثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، مما يعيد إلى الأذهان تلك الموجة الكنعانية العربية الأولى التي تمددت على شواطئ البحر المتوسط وجزره منذ القرن التاسع ق.م قبل أن تتغلب عليها الموجة الهندو/أوروبية.
٭٭٭
كان من الطبيعي أن يخلّف هذا التاريخ البحري علوماً بحرية عربية وشخصيات ذات منجزات غير مسبوقة في مضمار الملاحة البحرية، أكثرها شهرة أجيالٌ ثلاثة من أسرة واحدة كان آخرها أحمد بن ماجد الذي وضع خريطة تفصيلية للبحر الأحمر في مخطوطته الشهيرة «الفوائد في أصل علم البحر والقواعد» في العام 1490، بالإضافة إلى ما وضع من كتب للإرشاد البحري والإقليمي شملت وصفاً كاملا لمياه النصف الغربي من المحيط الهندي، مما جعل غبرييل فيران يصفه بالقول «إنه أول مؤلف لكتب الإرشاد البحري في العصور الحديثة».
ويمكن تتبع آثار منجزات التراث البحري العربي بسهولة في العلوم الغربية في مجالات عدة، أهمها أمّة بَحرية أَسَرَتْها أسطورة الصحراء 68-70a

أمّة بَحرية أَسَرَتْها أسطورة الصحراء 68-70a

المصطلحات الفلكية من خلال كثرة الصيغ الغربية لأسماء الفلكيين العرب وأسماء النجوم والمناصب القيادية البحرية وأسماء السفن، وليس من خلال المواد والآلات الأوروبية المقتبسة من العرب فقط.
ما الذي طمس هذا التراث البحري وغلّب صفة الصحراء على الموروث المعرفي والنفسي لدى العرب؟
إن من يتابع كتب الرحلات التي وصف أصحابها موانئ الجزيرة العربية ونشاطها وصولا إلى القرن السادس عشر الميلادي، يدرك أن هذا التراث البحري ظل متواصلا منذ أقدم العصور، إلا أن حضوره في الثقافة العربية لا يكاد يذكر. والسبب هو هيمنة أسطورة الأصل الصحراوي للغة والثقافة العربيتين مما أسقط في العتمة كل ما يناقض هذا الموروث، إما باعتباره دخيلا أو هامشياً. ولم يفعل الباحثون العرب في التراث ما يجب أن يفعله الباحثون عادة، أي العودة إلى البحث عن مظاهر الثقافة العربية في ما هو أبعد من الشعر الجاهلي والأمثال والحكم وأيام العرب، وهي مظاهر لا تشكل إلا جزءاً ضئيلا من الموروث العربي ، بل حصروا جهودهم في البحث في هذا النطاق المحدود، فاستدلوا على معرفة العرب بالبحر من أبيات شعرية، ولم يذهبوا إلى مراكز صناعة السفن. الأمر نفسه حدث حين استدلوا على معرفة العرب بالكتابة من ورود أسماء أدواتها في هذا الشعر وليس من النقوش التي تملأ خرائب المدن القديمة.

» أسد الصحراء : عمر المختار
» أسطورة إيكو
» جنوب السعوديه((جنة وسط الصحراء))
» الملكة زنوبيا... لؤلؤة الشرق في قلب الصحراء
» أسطورة العجوزين