فقالوا: يا ابن عم عبنا عليك أمرا وكرهنا ذلك، فإن أبيت ذلك فارجع، وقم بأمورنا، وشأنك وما تدين، فرجعت معهم وقلت:
لبغضكم عندنا مر مذاقته * وبغضنا عندكم يا قومنا لبن
لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم * وكلكم حين يثني عيبنا فطن
شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم * في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن
ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر * وفي قلوبكم البغضاء والإحن
قال مازن: فهداهم الله بعد إلى الاسلام جميعا.
وروى الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله : أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، فوقع على حائط لهم. فقالت له: لم لا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة، حرم الزنا، ومنع منا القرار.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: إن أول خبر قدم المدينة عن رسول الله : أن امرأة تدعى فاطمة كان لها تابع، فجاءها ذات يوم فقام على الجدار، فقالت: ألا تنزل؟ فقال: لا إنه قد بعث الرسول الذي حرم الزنا.
وأرسله بعض التابعين أيضا وسماه بابن لوذان، وذكر أنه كان قد غاب عنها مدة، ثم لما قدم عاتبته فقال: إني جئت الرسول فسمعته يحرم الزنا فعليك السلام.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: خرجنا في عير إلى الشام - قبل أن يبعث رسول الله - فلما كنا بأفواه الشام - وبها كاهنة - فتعرضتنا فقالت: أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى ذلك خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق. ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله قد خرج بمكة، يدعو إلى الله عز وجل. و قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله الزهري قال: كان الوحي يسمع، فلما كان الإسلام منعوا، وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيرة لها تابع من الجن، فلما رأى الوحي لا يستطاع، أتاها فدخل في صدرها، فضج في صدرها فذهب عقلها، فجعل يقول من صدرها: وضع العناق، ومنع الرفاق، وجاء أمر لا يطاق، وأحمد حرم الزنا.
وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن مرداس بن قيس السدوسي قال: حضرت النبي - وقد ذكرت عنده الكهانة وما كان من تغييرها عند مخرجه - فقلت: يا رسول الله قد كان عندنا في ذلك شيء، أخبرك أن جارية منا يقال لها: الخلصة لم يعلم عليها إلا خيرا، إذا جاءتنا فقالت: يا معشر دوس العجب العجب لما أصابني، هل علمتم إلا خيرا؟
قلنا: وما ذاك. قالت: إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة، ووجدت كحس الرجل مع المرأة فقد خشيت أن أكون قد حبلت، حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاما أغضف له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا حتى إنه ليلعب مع الغلمان، إذ وثب وثبة وألقى إزاره وصاح بأعلى صوته، وجعل يقول: يا ويلة يا ويلة، يا عولة يا عولة، يا ويل غنم، يا ويل فهم من قابس النار، الخيل والله وراء العقبة، فيهن فتيان حسان نجبة.
قال: فركبنا وأخذنا للأداة، وقلنا: يا ويلك ما ترى؟
فقال: هل من جارية طامث، فقلنا: ومن لنا بها؟
فقال شيخ منا: هي والله عندي عفيفة الأم، فقلنا: فعجلها، فأتى بالجارية وطلع الجبل، وقال للجارية اطرحي ثوبك، واخرجي في وجوههم.
وقال للقوم: اتبعوا أثرها.
وقال لرجل منا يقال له أحمد بن حابس: يا أحمد بن حابس عليك أول فارس، فحمل أحمد فطعن أول فارس فصرعه، وانهزموا فغنمناهم.
قال: فابتنينا عليهم بيتا وسميناه ذا الخلصة، وكان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول، حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوما: يا معشر دوس نزلت بنو الحارث بن كعب فركبنا، فقال لنا: اكدسوا الخيل كدسا، احشوا القوم رمسا، انفوهم غدية واشربوا الخمر عشية.
قال: فلقيناهم، فهزمونا وغلبونا، فرجعنا إليه فقلنا: ما حالك وما الذي صنعت بنا؟ فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه، وانتصبت أذناه، وانبرم غضبانا، حتى كاد أن ينفطر وقام، فركبنا واغتفرنا هذه له، ومكثنا بعد ذلك حينا، ثم دعانا فقال: هل لكم في غزوة تهب لكم عزا، وتجعل لكم حرزا، ويكون في أيديكم كنزا؟
فقلنا: ما أحوجنا إلى ذلك. فقال: اركبوا فركبنا، فقلنا: ما نقول؟ فقال: بنو الحارث بن مسلمة. ثم قال: قفوا. فوقفنا.
ثم قال: عليكم بفهم، ثم قال: ليس لكم فيهم دم، عليكم بمضرهم أرباب خيل، ونعم. ثم قال: لا، رهط دريد بن الصمة قليل العدد، وفي الذمة ثم قال: لا. ولكن عليكم بكعب بن ربيعة وأسكنوها ضيعة عامر بن صعصعة، فليكن بهم الوقيعة.
قال: فلقيناهم فهزمونا، وفضحونا فرجعنا، وقلنا: ويلك ماذا تصنع بنا؟ قال: ما أدري كذبني الذي كان يصدقني، اسجنوني في بيتي ثلاثا، ثم ائتوني، ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة، ففتحنا عنه فإذا هو كأنه حجرة نار.
فقال: يا معشر دوس، حرست السماء وخرج خير الأنبياء. قلنا: أين؟ قال: بمكة، وأنا ميت فادفنوني في رأس جبل، فإني سوف أضطرم نارا، وإن تركتموني كنت عليكم عارا، فإذا رأيتم اضطرامي وتلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار، ثم قولوا مع كل حجر: بسمك اللهم فإني أهدى وأطفى.
قال: وإنه مات فاشتعل نار، ففعلنا به ما أمر، وقد قذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كل حجر: بسمك اللهم فخمد وطفى، وأقمنا حتى قدم علينا الحاج فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله. غريب جدا.
وروى الواقدي، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جندب، عن النضر بن سفيان الهذلي، عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقا ومعان، قد عرسنا من الليل، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض: أيها النيام هبوا، فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد فطردت الجن كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزورة، كلهم قد سمع بهذا.
فرجعنا إلى أهلنا، فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد، ذكره أبو نعيم.
وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبد الله بن العلاء، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا.
كانوا يعظمونه وينحرون له الجزور، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه فدخلوا عليه في الليل، فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك.
فقال عثمان بن الحويرث: ما له قد أكثر التنكس إن هذا الأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله فجعل عثمان يقول: أبا صنم العيد الذي صُفَّ حوله * صناديد وفد من بعيد ومن قُرب
تنكّست مغلوبا فما ذاك قُلْ لنا * أذاك سفيه أم تنكست للعتب
فإن كان من ذنب أتينا فإننا * نبوءُ بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوبا ونُكِّست صاغرا * فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: فأخذوا الصنم فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول:
تردّى لمولود أنارتْ بنوره * جميع فجاج الأرض في الشرق والغرب
وخرت له الأوثان طرا وأرعدتْ * قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت * وقد بات شاهُ الفرس في أعظم الكرب
وصدّتْ عن الكهان بالغيب جنّها * فلا مخبرُ عنهم بحق ولا كذب
فيا لقصيِّ ارجعوا عن ضلالكم * وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
قال: فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقالوا: أجل. فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد اخطئوا الحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يضر، يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين، فإنكم و الله ما أنتم على شيء.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض، ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ؛ فأما ورقة بن نوفل فتنصر وقرأ الكتب حتى علم علما.
وأما عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس، ثم إنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة، فلقي بها راهبا عالما فأخبره بالذي يطلب، فقال له الراهب: إنك لتطلب دينا ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك، يبعث بدين الحنيفية، فلما قال له ذلك، رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه.
وأما عبد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي ، ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة، فلما صار بها تنصر وفارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيا. تقدم في ترجمة زيد بن عمر بن نفيل له شاهد. وقد قال الخرائطي: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح أبو بكر الوراق، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز، حدثني محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي، عن العباس بن مرداس أنه كان يعر في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بياض مثل اللبن.
فقال: يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء قد كفت أحراسها، وأن الحرب تجرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل بالبر والتقوى، يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، صاحب الناقة القصوى.
قال: فرجعت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت، حتى جئت وثنا لنا يدعى الضماد وكنا نعبده ونكلم من جوفه، فكنست ما حوله، ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوفه يقول:
قلْ للقبائل من سليم كلها * هلك الضماد وفاز أهلُ المسجد
هلك الضماد وكان يُعبدُ مرة * قبل الصلاة مع النبي محمد
إن الذي ورِث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريشٍ مهتد
قال: فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة، وأخبرتهم الخبر، وخرجت في ثلاثمائة من قومي بني حارثة إلى رسول الله وهو بالمدينة، فدخلنا المسجد فلما رآني رسول الله قال لي: « يا عباس، كيف كان إسلامك؟ » فقصصت عليه القصة.
قال فسر بذلك، وأسلمت أنا وقومي.
ورواه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) من حديث أبي بكر بن أبي عاصم عن عمرو بن عثمان به.
ثم رواه أيضا من طريق الأصمعي: حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر، عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي، عن العباس بن مرداس السلمي قال: أول إسلامي أن مرداسا أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضماذ، فجعلته في بيت، وجعلت آتيه كل يوم مرة، فلما ظهر النبي سمعت صوتا مرسلا في جوف الليل راعني، فوثبت إلى ضماد مستغيثا وإذا بالصوت من جوفه وهو يقول: قل للقبيلة من سليم كلها * هلك الأنيس وعاش أهل المسجد
أودى ضماد وكان يعبد مرة * قبل الكتاب إلى النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد
قال: فكتمته الناس، فلما رجع الناس من الأحزاب، بينا أنا في إبلي بطرف العقيق من ذات عرق راقدا، سمعت صوتا وإذا برجل على جناح نعامة وهو يقول: النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في ديار إخوان بني العنقاء، فأجابه هاتف من شماله وهو يقول:
بشر الجن وإبلاسها * إن وضعت المطي أحلاسها
وكلأَتِ السماء أحراسها
قال: فوثبت مذعورا، وعلمت أن محمدا مرسل، فركبت فرسي واحتثثت السير، حتى انتهيت إليه فبايعته ثم انصرفت إلى ضماد فأحرقته بالنار، ثم رجعت إلى رسول الله فأنشدته شعرا أقول فيه: لعمرك إني يوم أجعل جاهلا * ضمادا لرب العالمين مشاركا
وتركي رسول الله والأوس حوله * أولئك أنصار له ما أولئكا
كتاركِ سهل الأرض والحزن يبتغي * ليسلك في وعثِ الأمور المسالكا
فآمنت بالله الذي أنا عبدهُ * وخالفت من أمسى يريد المهالكا
ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا * أبايع نبي الأكرمين المباركا
نبي أتانا بعد عيسى بناطقٍ * من الحق فيه الفصل فيه كذلكا
أمين على القرآن أولُ شافع * وأول مبعوث يجيب الملائكا
تلافى عرى الإسلام بعد انتقاضها * فأحكمها حتى أقام المناسكا
عنيتُك يا خير البرية كلها * توسطتَ في الفرعين والمجد مالكا
وأنتَ المصفى من قريش إذا سمت * على ضمرها تبقى القرون المباركا
إذا انتسب الحيان كعب ومالك * وجدناك محضا والنساء العواركا
قال الخرائطي: وحدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا إسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدثني شيخ من الأنصار يقال له: عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة قال:
بلغني أن رجالا من خثعم كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوما نعبد الأوثان، فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه، يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم، إذ هتف بهم هاتف يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام * من بين أشياخٍ إلى غلام
ما أنتم وطائش الأحلام * ومسند الحُكم إلى الأصنام
أكلكم في حيرةٍ نيام * أم لا تَرون ما الذي أمامي
من ساطع يجلو دُجى الظلام * قد لاح للناظر من تِهَام
ذاك نبي سيد الأنام * قد جاء بعد الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام * ومن رسولٍ صادق الكلام
أعدل ذي حكم من الأحكام * يأمرُ بالصلاة والصيام
والبر والصلات للأرحام * ويزجرُ الناس عن الآثام
والرجسِ والأوثانِ والحرام * من هاشمٍ في ذروة السنام
مستعلنا في البلد الحرام
قال: فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه، وآتينا النبي فأسلمنا. وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله البلوي، حدثنا عمارة، حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثنا محمد بن عكبر، عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له: رافع بن عمير - وكان أهدى الناس للطريق، وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وكانت العرب تسميه لذلك دعموص العرب، لهدايته وجراوته على السير - فذكر عن بدء إسلامه قال:
إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي ونختها وتوسدت ذراعها ونمت، وقد تعوذت قبل نومي فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن من أن أوذي أو أهاج، فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي وبيده حربة يريد أن يضعها في نحرها، فانتبهت لذلك فزعا، فنظرت يمينا وشمالا فلم أرَ شيئا فقلت: هذا حلم.
ثم عدت فغفوت فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى، فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أرَ شيئا، وإذا ناقتي ترعد.
ثم غفوت فرأيت مثل ذلك، فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام بيده حربة، ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها وهو يقول:
يا مالكَ بن مهلهل بن دِثار * مهلا فدىً لك مئزري وإزاري
عن ناقةِ الأنسي لا تعرض لها * واختَرْ بها ما شئت من أثواري
ولقد بدا لي منكَ ما لم أحتسب * ألا رعيتَ قرابتي وذِماري
تسمو إليه بحربةٍ مسمومةٍ * تُبا لفعلك يا أبا الغفار
لولا الحياءُ وأن أهلك جيرة * لعلمت ما كشّفتُ من أخباري
قال: فأجابه الشاب وهو يقول:
أأردتَ أن تعلو وتخفض ذكرنا * في غير مزرية أبا العيزار
ما كان فيهم سيد فيما مضى * إن الخيارَ هُمو بنو الأخيار
فاقصِدْ لقصدك يا معكبرُ إنما * كان المجيرُ مُهلهِلَ بن دثار
قال: فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداءً لناقة جاري الأنسي، فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف. ثم التفت إلى الشيخ فقال: يا هذا إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها.
قال: فقلت له: ومن محمد هذا؟ قال: نبي عربي، لا شرقي ولا غربي، بعث يوم الإثنين.
قلت: وأين مسكنه؟ قال: يثرب ذات النخل.
قال: فركبت راحلتي حين برق لي الصبح، وجددت السير حتى تقحمت المدينة، فرآني رسول الله فحدثني بحديث قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت. قال سعيد بن جبير: وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا } [1].
وروى الخرائطي من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عن داود بن الحسين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي قال: إذا كنت بوادٍ تخاف السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد.
وروى البلوي عن عمارة بن زيد، عن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، عن ابن عباس قصة قتال علي الجن بالبئر ذات العلم التي بالجحفة حين بعثه رسول الله يستقي لهم الماء، فأرادوا منعه وقطعوا الدلو فنزل إليهم، وهي قصة مطولة منكرة جدا، والله أعلم. وقال الخرائطي: حدثني أبو الحارث: محمد بن مصعب الدمشقي وغيره، حدثنا سليمان بن بنت شرحبيل الدمشقي، حدثنا عبد القدوس بن الحجاج، حدثنا خالد بن سعيد، عن الشعبي، عن رجل قال:
كنت في مجلس عمر بن الخطاب وعنده جماعة من أصحاب النبي يتذاكرون فضائل القرآن، فقال بعضهم: خواتيم سورة النحل، وقال بعضهم: سورة يس، وقال علي: فأين أنتم عن فضيلة آية الكرسي أما إنها سبعون كلمة في كل كلمة بركة. قال وفي القوم عمرو بن معدي كرب لا يحير جوابا، فقال: أين أنتم عن بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال عمر: حدثنا يا أبا ثور.
قال: بينا أنا في الجاهلية إذ جهدني الجوع فأقحمت فرسي في البرية، فما أصبت إلا بيض النعام، فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخ عربي في خيمة، وإلى جانبه جارية كأنها شمس طالعة ومعه غنيمات له، فقلت له: استأسر ثكلتك أمك، فرفع رأسه إلي وقال: يا فتى إن أردت قرى فانزل، وإن أردت معونة أعنَّاك؟
فقلت له: أستأسر.
فقال:
عرضنا عليك النّزْل منا تكرما * فلم ترعوي جهلا كفعل الأشائم
وجئتَ ببهتان وزور ودون ما * تمنّيتهُ بالبيض حزُّ الغلاصم
قال: ووثب إلي وثبة وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فكأني مثلت تحته. ثم قال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قلت: بل خلِّ عني. قال: فخلى عني. ثم إن نفسي جاذبتني بالمعاودة فقلت: استأسر ثكلتك أمك، فقال:
ببسم الله والرحمن فُزْنا * هنالك والرحيمُ به قَهَرنا
وما تغني جلادة ذي حفاظٍ * إذا يوما لمعركة برزنا
ثم وثب لي وثبة كأني مثلت تحته. فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قال: قلت بل خل عني، فخلى عني فانطلقت غير بعيد. ثم قلت في نفسي: يا عمرو أيقهرك هذا الشيخ، والله للموت خير لك من الحياة، فرجعت إليه فقلت له: استأسر ثكلتك أمك، فوثب إلي وثبة وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته.
فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قلت: بل خل عني. فقال: هيهات، يا جارية إئتني بالمدية، فأتته بالمدية فجزَّ ناصيتي. وكانت العرب إذا ظفرت برجل فجزت ناصيته استعبدته، فكنت معه أخدمه مدة.
ثم إنه قال: يا عمرو أريد أن تركب معي البرية، وليس بي منك وجل، فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق.
قال: فسرنا حتى أتينا واديا أشبا مهولا مغولا، فنادى بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يبق طير في وكره إلا طار. ثم أعاد القول فلم يبق سبع في مربضه إلا هرب. ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحبشي قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السحوق.
فقال لي: ياعمرو إذ رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال: فلما رأيتهما قد اتحدا قلت: غلبه صاحبي باللات والعزى فلم يصنع الشيخ شيئا، فرجع إلي وقال: قد علمت أنك قد خالفت قولي
قلت: أجل ولست بعائد، فقال: إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: أجل. فلما رأيتهما قد اتحدا قلت: غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم، فاتكأ عليه الشيخ، فبعجه بسيفه فاشتق بطنه فاستخرج منه شيئا كهيئة القنديل الأسود. ثم قال: يا عمرو هذا غشه وغله. ثم قال: أتدري من تلك الجارية؟ قلت: لا.
قال: تلك الفارعة بنت السليل الجرهمي من خيار الجن، وهؤلاء أهلها بنو عمها يغزونني منهم كل عام رجل ينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم.
ثم قال: قد رأيت ما كان مني إلى الحبشي، وقد غلب علي الجوع فائتني بشيء آكله، فأقحمت بفرسي البرية، فما أصبت الأبيض النعام، فأتيته به فوجدته نائما، وإذا تحت رأسه شيء كهيئة الحشبة، فاستللته فإذا هو سيف عرضه شبر في سبعة أشبار، فضربت ساقيه ضربة أبنت الساقين مع القدمين، فاستوى على قفا ظهره وهو يقول: قاتلك الله ما أغدرك يا غدار.
قال عمر: ثم ماذا صنعت؟ قلت: فلم أزل أضربه بسيفي حتى قطعته إربا إربا. قال: فوجم لذلك ثم أنشأ يقول:
بالغدر نلت أخا الإسلام عن كثب * ما إن سمعت كذا في سالف العرب
والعجم تأنف مما جئته كرما * تبا لما جئته في السيد الأرب
إني لأعجب أني نلت قتلته * أم كيف جازاك عند الذنب لم تنب
قرم عفا عنك مرات وقد علقت * بالجسم منك يداه موضع العطب
لو كنت آخذٍ في الإسلام ما فعلوا * في الجاهلية أهل الشرك والصلب
إذا لنالتك من عدلي مشطبة * تدعو لذائقها بالويل والحرب
قال: ثم ما كان من حال الجارية قلت: ثم إني أتيت الجارية فلما رأتني قالت: ما فعل الشيخ؟ قلت: قتله الحبشي. فقالت: كذبت بل قتلته أنت بغدرك، ثم أنشأت تقول:
يا عين جودي للفارس المغوار * ثم جودي بواكفات غزار
لا تملي البكاء إذ خانك الدهر * بواف حقيقة صبار
وتقي وذي وقار وحلم * وعديل الفخار يوم الفخار
لهف نفسي على بقائك عمرو * أسلمتك الأعمار للأقدار
ولعمري لو لم ترمه بغدر * رمت ليثا كصارم بتار