وابرز نموذج على ذلك حادثة برافاى فكان رجلا جاهلا قدم إلى مصر واشتهر بالنكات والأحاديث الشيقة فقربه سعيد باشا إليه وجعله مديرا لشئونه الخاصة ثم منحه امتياز استغلال المناجم الواقعة على شاطئ البحر الأحمر على الرغم من إنه لم يكن يعرف من أعمال التعدين شيئا وقد استرد سعيد بعد ذلك هذا الامتياز منه ومنحه مليون فرنك بصفة التعويض وتمكن هذا الرجل من جمع ثروة بلغت الثلاثين مليون فرنك.
وهذا ما لمسه قنصل فرنسا وسجله فى تقرير أرسله لوزارة خارجية بلاده بتاريخ 2اكتوبر 1854واهم ما جاء فى ذلك التقرير "أنه لم يكد يذاع نبأ وفاة عباس باشا حتى هطلت على مصر جموع غفيرة من المنافقين والمقامرين من كافة أنحاء أوروبا والتفوا حول الوالى آناء الليل والنهار وقدموا له مشاريع خيالية لا تستقيم مع منطق أو عقل وابدى القنصل أسفه لان الوالى ينفق وقته فى دراسة مشروعات هؤلاء الأفاقين الذين يرددون على مسامعه فى كل حين العبارات الرنانة التى تستهويه، ويطرب لها لحد بعيد " .
وبهذه الطريقة أصاب كثير من الطفيليين ثروات عريضة وامتيازات واسعة وأصبحوا على رأس الجاليات الأجنبية فى مصر ولكنها لا تمثل أى نسبة بالمقارنة بعقد الامتياز الأول لإنشاء قناة السويس الذى ظفر به فرديناند ديليسبس فى 30 نوفمبر 1854 من صديقه محمد سعيد باشا والى مصر وقد أطلق عليه اسم الفرمان الأول وهذا العقد بشهادة شخصيات أجنبية انطوى على امتيازات مجحفة بحقوق مصر، ومنها تعليق ديروستى قنصل تسوكانا فى مصر على الامتيازات التى وردت بهذا العقد فى تقرير أرسل إلى وزير خارجية فرنسا بتاريخ 25 ديسمبر 1854 وأرفق به نسخه من العقد فقال "لست فى حاجة لان أظهر لمعاليكم مقدار الامتياز التى منحها سمو الوالى، فإنها عظيمة الفائدة للمسيو ديليسبس وللشركة المزمع تأسيسها ، فلم يحدث مطلقا أن ظفر أى شخص بمثل هذه الميزات العظيمة وبمثل هذا السخاء من أية حكومة كانت........"
وفى نفس السياق قال كرابيتسى المستشار السابق فى محكمة الاستئناف المختلطة السابقة بالإسكندرية بشيء من التهكم المرير" من الغريب أن سعيدا لم يطالب صديقه بأى ثمن مقابل الامتيازات التى منحها إياه ، بل باع إرث الفراعنة لرجل فرنسى وقبض الثمن ابتسامة زائلة".
وفى الحقيقة لم يبع سعيد ارث الفراعنة مقابل ابتسامة زائلة فقط ولكنه حصل على الوشاح الأكبر وسام الشرف من إمبراطور فرنسا نابليون الثالث بعد ثلاثة أسابيع من صدور عقد الامتياز، وقدمه له قنصل فرنسا فى حفل كبير أقيم بالقلعة فى 22ديسمبر 1854 ، وهذا التكريم السريع من نابليون الثالث لسعيد يبرز مدى تقدير الإمبراطور لقيمة العقد الذى حصلوا عليه والذى أثار شكوك إنجلترا حول القناة والنوايا الحقيقية للفرنسيين وراء سعيهم لهذا المشروع ، ولذا عارضت إنجلترا مشروع القناة منذ البداية لاعتقادها أنه مشروع سياسى يهدف إلى امتلاك مصر لضرب الممتلكات البريطانية فى الهند وبريطانيا كانت تؤثر بإنشاء خط حديدى يمتد من الإسكندرية ويمر بالقاهرة وصولا للسويس والذى بدأت فعليا فيه أواخر عام 1851.
ومن أهم المخاوف التى أبدتها إنجلترا من هذا المشروع مشكلة العمالة والتى خلا عقد الامتياز الأول من الإشارة لها أو وضع قيد خاص يحدد عدد العمال الأجانب وهو الأمر الذى سيتيح استقدام جموع هائلة من فرنسا يستقرون فى منطقة القناة ويكونون أداة قوية تستفيد منها الحكومة الفرنسية فى تنفيذ مخططهم القديم ، وموقف إنجلترا حيال المشروع ومدى تخوفهم يتبلور فى كلمة اللورد إلين بروف فى مجلس اللوردات بجلسة 6مايو 1861 وأبرز ما جاء فيها مقولته: " فإن بوسفور واحد كان مبعث متاعب جمة لنا وانى اعتقد أن هذا المشروع الذى نحن بصدده إنما هو محاولة لإنشاء بسفور آخر ووضعه فى أيدى الفرنسيين".
ويستكمل الكاتب فى الفصل الثانى "الصديقان يعالجان مشكلة الأيدى العاملة"فالاعتراضات على استخدام العمال الأجانب على نطاق واسع استفاد منه ديليسبس ورحب به بل وبالغ فى تصوير خطورته لسعيد باشا طامعا فى أن يقوم الشعب المصرى وحده بعبء حفر القناة ، لان استخدام العمال الأوروبيين على نطاق واسع ضرب مستحيل وسيرهق ميزانية الشركة لارتفاع أجورهم التى لا تتناسب مع حجم إنتاجهم الضئيل والتى تزيد على أجور العمال المصريين والذين يمتازون بالجلد وقوة الاحتمال والصبر والقدرة على متابعة العمل المضنى فى المناخ الصحراوى .
وأجواء المعارضة هيأت الفرصة لـ ديليسبس للحصول على عقد الامتياز الثانى وقانون الشركة الأساسى فى 5يناير 1856 وأهم المواد بهذا العقد المادة الثانية والتى نصت علي: "للشركة الحق فى تنفيذ الأعمال المنوط بها وبمعرفتها أو بواسطة مقاولين وتعطى لهم بالمناقصة العامة والممارسة وفى جميع الحالات يكون على الأقل أربعة أخماس العمال الذين يستخدمون فى هذه الأعمال من المصريين "
فهذه المادة كانت ركيزة قوية فى تنفيذ المشروع وجعلها ديليسبس أساسا لنظام السخرة فى حفر القناة ورتب عليها حقوقا جديدة للشركة صاغها فى لائحة سميت "لائحة استخدام العمال الوطنيين المصريين فى أشغال قناة السويس "والتى استصدرها من صديقه سعيد باشا فى 20 يوليو1856والتى اظهر ديليسبس براعة فائقة فى صياغة موادها وتجنب أن يضمنها لفظ السخرة إطلاقا وإن كانت بعض موادها تفيض بها روحا ومعنى ، فبراعة ديليسبس برزت فى مجال الخداع والتدليس والتلاعب بالألفاظ ليخفى وراءها ما يبيته من تسخير الشعب المصرى فى حفر القناة .
ولقد قرر ثلاثة من أقطاب القانون فى فرنسا وهم ويديلون بارت ودى فوار وجولس فافر فى نوفمبر1863 أن الإبقاء على هذه اللائحة إنما هو إبقاء للسخرة، لان اللائحة والسخرة مرتبطان بعضهما ببعض بعروة وثقى لا انفصام لها.
وبتطبيق هذه اللائحة سيق المصريون لساحات الحفر زمرا لشق قناة السويس وقد بلغ عدد المصريين الذين أكرهوا على الحفر خلال عام 1862 ما يزيد على ربع مليون مصرى وهو عدد رهيب بالنسبة لتعداد السكان فى تلك السنة وهو4٫833٫000 نسمة.
وفى ذلك قال السير أوكلاند كلفن فى كتابه صناعة مصر الحديثة" إن سعيد جلب الشقاء على الفلاحين بل كان هو أكبر العاملين على إتعاسهم بسبب امتياز قناة السويس الذى فرض عليهم السخرة فى اشد حالاتها وأبعدها عن المكافأة.
و فى الفصل الثالث تناول الكاتب "البدء فى تنفيذ المشروع وتعطيل اللائحة ،فقد بذل ديليسبس محاولات مضنية طيلة أربع سنوات "1855-1858" بالقسطنطينية وباريس ولندن فى سبيل موافقة السلطان على العقد إعمالا بالشرط الذى وضعه سعيد بالعقد ولكنه عجز على أن يظفر به بسبب معارضة إنجلترا للمشروع وضغطها على الباب العالى لرفضه ،ولكن ديليسبس لم يقف كثيرا أمام رفض الباب العالى بل استقر رأيه على الشروع فى تأليف شركة القناة وإغفال ذلك الشرط بالعقد ليبدأ الحفر وفى تاريخ 28 يوليو 1858 وأرسل خطابا للوكيل الأعلى لشركة القناة فى مصر "سنرفع الستار عن الفصل الأخير و لن نضيع الوقت فى مفاوضات لا طائل منها مع الأتراك"وأطلق المؤرخون على تصرف ديليسبس سياسة الأمر الواقع، مع أنها كانت سياسة الاستخفاف بالقانون والتنكر للمبادئ الخلقية لانه اتبع فى خططه التضليل والتغرير والأكاذيب والمخالفة ويزيد على ذلك تنكره لسعيد باشا وتهديده بالمطالبة بتعويضات ضخمة إذا ما تمسك بحرفية القانون .
وفى ذلك التصرف قال كرابيتس المستشار السابق بمحكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية " ان الطرق الملتوية التى اتبعها ديليسبس فى تأليف الشركة تؤدى به إلى المحاكمة الجنائية، ولكن الشركة ضمت شخصيات كبيرة فى فرنسا كان يهمها نجاح المشروع فتغاضت عن تصرفاته غير القانونية" إلا أن ديليسبس لم يعنيه ذلك.
وفى 25 إبريل 1859 أقام ديليسبس حفلا متواضعا فى المنطقة التى اختارها لبدء الحفر وشهد الحفل بعض من مستخدمى الشركة و المقاول العام وفريق من العمال المصريين بلغوا اكثر من مائة عامل وهم الذين بدأت بهم الشركة أعمال الحفر وهو الأمر الذى أثار الحكومة الإنجليزية والتى ضغطت بدورها على الباب العالى إصدار أمر صريح لسعيد باشا لوقف عمليات الحفر وهذا عَرض الشركة فى صيف وخريف 1859 لأزمتين كادتا تعصفان بها وتغير موقف سعيد المؤيد للشركة للمعارض نظرا للضغط الشديد الذى تعرض له من النمسا وإنجلترا مما جعله يتخذ تدابير غير ودية واصدر أوامر شفوية لمدير الدقهلية ودمياط لمنع ديليسبس من شراء الطعام أو استئجار قوارب لنقل المياه ، ولكن إنجلترا لم تقنع بموقف الحكومة المصرية بسحب العمال المصريين من المشروع واتخذت خطوة عملية عنيفة.وأرسلت وحدات من الأسطول الإنجليزى بقيادة منداى إلى الإسكندرية فى يوليو 1859 للاشتراك فى خلع سعيد من منصبه كـ «وال» على مصر وإيقاف العمل فى حفر القناة بالقوة، ولم ينقذ سعيد من عزله إلا وقوع تطورات عسكرية بالموقف الحربى فى أوروبا وجعلت الأسطول الإنجليزى يعود أدراجه، وكان تطلع الشركة كلها بعد انفراج أزمة أكتوبر 1859 ومع بدء عام 1860 استخدام عمال السخرة تنفيذا للائحة ولذا وضعت الشركة مادة بالاتفاق النهائى مع مقاول الشركة الفونس هاردن فى 20 فبراير 1860 وكان نصها "أن الشركة تتعهد بان تقدم للمقاول كافة الوسائل الممكنة وجميع العمال المصريين الذين وعد بهم حضرة صاحب السمو والى مصر" ، وبالفعل تغير الموقف فى ساحات الحفر تغيرا ملموسا منذ النصف الثانى من شهر أبريل 1861 وبعد أن كانت الساحات تستقبل العشرات من العمال المصريين باتت تستقبل الآلاف من أفراد الشعب المصرى ، وهوالامر الذى تناولته الصحافة الانجليزية بالنقد ووصفت الصورة المزرية التى يُكره بها المصريون على الذهاب لساحات الحفر ومن تلك المقالات مقال لمراسل جريدة التايمز بالإسكندرية والتى نشرت فى عدد 6يونيو 1861 ، وديليسبس لم يقنع بالسخرة وعمل المصريين نهارا وأرغمهم على العمل ليلا ونتيجة هذا الطمع وجور سعيد ظفرت الشركة بعدد وافر من عمال السخرة بلغ 19687 سيقوا للقناة فى شهر رمضان 1278 هجرية بمارس 1862 والذين عمل الكثير منهم ليلا حيث ابتاعت الشركة ألف مشعل لإنارة مواقع الحفر .
وفى ذلك شهادة للسائح الفرنسى برشير حيث قال " انه شاهد مائتين من عمال السخرة يشتغلون ليلا خلال شهر فبراير 1862 فى حفر ترعة الماء العذب وأن المشاعل ويطلق عليها (ماشا الله) كانت تنير ساحات الخفر وتكشف جموع العمال الذين يرفعون الرمال ويضعونه فى القفف والمشايخ يصيحون بأعلى أصواتهم على المضى فى أعمالهم".
ويستخلص الدكتور عبد العزيز محمد الشناوى من بحثه أن السخرة فى حفر قناة السويس كانت عبارة عن تعبئة عامة فرضت على الشعب المصرى لخدمة الشركة وسيظل الأسلوب الذى اتبعته وصمة فى تاريخها ومثلا صارخا لظلم حكام مصر من أسرة محمد علي