الإعجاز البلاغي في قصة يوسف عليه السلام

- في قوله تعالي: "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا علي قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون" "يوسف:17-18".
أ- قولهم هنا: "ولو كنا صادقين" لم يستطيعوا ان يجزموا بصدقهم في حين أنهم جزموا به في قولهم: "وإنا لصادقون" عندما تركوا أخاهم بنيامين في قبضة عزيز مصر. ذلك لأن الكاذب مهما اجتهد في إخفاء كذبه لا بد ان يترك علامة لفظية أو معنوية تكشفه. سواء في هذا التردد والاحتراز اللفظي "ولو كنا" أم فيما كان من شأنهم أن جاءوا بالقميص ملطخاً بالدم مع كونه سليماً من اي خدش أو قطع. مما جعل أباهم يعقول "عليه السلام" يقول لهم: ما أحلم هذا الذئب الذي أكل يوسف ولم يخدش قميصه. كذبتم لو أكله الذئب لمزق القميص. وهو ما عبر عنه الحق سبحانه وتعالي: "وجاءوا علي قميصه بدم كذب" واستخدم المصدر المراد به اسم المفعول للدلالة علي شدة كذبهم. وأنه محض افتراء لا أساس له في الواقع. ولو قلنا إن لفظ كذب علي وزن "فعل" إنما هو للمبالغة. فالتعبير بالمصدر وبصيغة المبالغة كلاهما يبرز مدي الافتراء والمبالغة في الكذب والاجتهاد في إخفاء معالمه. ولكن كما قال بعض النقاد: أفضل كلمة قالها الشاعر:
ومهما تكن عند امريء من خليفة
وإن خالها تخفي علي الناس تعلم
علي حين أنهم عندما كانوا صادقين فعلا أكدوا كلامهم بقولهم: "وإنا لصادقون" "يوسف:82".
ب- في قوله تعالي: "فصبر جميل" تساءل بعض الناس: كيف يكون الصبر جميلاً؟ فقال بعض أهل العلم: إن القرآن الكريم تحدث عن الصبر الجميل. والصفح الجميل. والهجر الجميل.
أما الصبر الجميل "هنا" فهو الصبر الذي لا شكوي ولا ضجر معه. إنما هو الصبر المصحوب بالرضا والتسليم بقضاء الله وقدره. وقد قال أحد الشعراء للمعتمد بن عباد يعزيه في وفاة والده:
ستصبر صبر اليأس أو صبر راحة
فلا تؤثر الوجه الذي معه الوزر
وأما الصفح الجميل في قوله تعالي: "فاصفح الصفح الجميل" "الحجر:85" فهو الذي لا من معه. وأما الهجر الجميل في قوله تعالي: "واهجرهم هجراً جميلاً" "المزمل:10" فهو الهجر الذي لا أذي معه.
2- في قوله تعالي: "وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلي دلوه قال يا بشري هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسي أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وكذلك مكنا ليوسف في الأرض" "يوسف:19-21".
أ- لفظ سيارة عند علماء اللغة لفظ مولد. وهو اللفظ الذي كان يستخدم في القديم لمعني. ثم مع تطور الزمن صار يستخدك لمعني آخر بينه وبين المعني القديم مناسبة. كألفاظ القطار والقاطرة والمقطورة. حيث كان اللفظ يستخدم لمجموعة الإبل التي يسير بعضها خلف بعض. ويسمي الجمل أو الناقة التي في المقدمة بالقاطرة. والتي خلفها بالمقطورة. فلما كان شكل القطار وسيره المسافات الطويلة يشبه سير الإبل هذا. استخدك اللفظ القديم في المعني الجديد.
ولفظ "سيارة" صيغة مبالغة من السير علي وزن "فعالة". وكان يطلق علي الركب يواصل السير لمسافات طويلة. ولوحظ هذا المعني في المركبة الحديثة التي تسير لمسافات طويلة. فسميت سيارة لما بين المعنيين من تشابه.
ب- عندميا يسمع بعض الناس قوله تعالي: "وشروه بثمن بخس" يألم لبيع هذا الكريم ابن الكريم بثمن بخس. لكنه قد لا يتنبه للحكمة الإلهية. فسواء بيع يوسف "عليه السلام" بثمن بخس أم بمئات الملايين لن يعود عليه من هذا الثمن شيء. إنما العبرة بما آل إليه أمره عندما قال عزيز مصر لا مرأته: أكرمي مثواه عسي أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكما قال أبو تمم
قد ينعم الله بالبلوي وإن عظمت
ويبتلي الله
بعض القوم بالنعم
ومن هنا من لحظة وضع يوسف "عليه السلام" قدمه في بيت العزيز كانت بداية التمكين. "وكذلك مكنا ليوسف في الارض". وإن كان الوصول إلي هذا التمكين قد مر بابتلاءات ومحن هي ضريبة طبيعية له. وهي سنة الله في امتحان عباده المخلصين. يقول الحق سبحانه وتعالي: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" "العنكبوت :2 3". ويقول سبحانة وتعالي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة لوما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول والذين أمنوا معه متي نصر الله ألا إن نصر الله قريب " "البقرة 214".

يتبع