حوار : صلاح عبد الصبور

حـــــــــــــــــــــــــوار


"أأنت من سكان هذه المدينة"

أوقفني منتزعا خطاتي من مدارها

مدليا عيونه الغريقة الدكناء من غبارها

مستعجلا كأنما يخاف أن تخطفني...تخطفهُ

الرياح, و الشموس في إسارها

من قبل أن أجيب, كرر السؤال

"أأنت من سكان هذه المدينة"

نزلتُها منذ سنين طالباً للخبزِ و المئونة

مُنحدراً مع الطريق المتربِ النحيل

و الترعةِ اللابسةِ الحداد

مآزرا من نبتها الذاوي. و طرحةَ النخيل

منتقلا من قرية حزينة

لقرية حزينة

وصلتها في وسط الصيف. بيوتها التلالُ

موصدةٌ. لتتقي الأغراب و السخونة

و صوتها تحت سياط الشمس و الرمال

يئن...يئن...يئن

تخطئه مسامع الأرصاد و الرجال

تسمعه كلابها الضالة, محتضريها

بعض المجانين بها

و الشعار الذي رمت به سفينة الحديد و الصدأ

على تخوم رملها في ساعة الزوال

و كرر السؤال

"أأنت من سكان هذه المدينة"

ألِفتها منذ سنين عدة. غدوتُ قطعة مفيدة

من قطع المشهد في عروضها اليومية

حين تقدم المآسيَ الشجية

أو المساخر السعيدة

نُصبت مرة على مفارق الطرق

مُحدودبا أُمرتُ أن ألتف

أخذتُ شكل حجرة

فليلة ليستريح ظهره لظهرها مسافرٌ مرهق

و ليلة ليركن المحارب المزهوُّ فى مدى الأفق

على عظاميَ المكوَّرة

آيته المنتصرة

و مرة غدوتُ شجرة

مفرعا أُمرتُ أن أقف

و مرة, عُلِّقتُ مرآة على جدار حُجرة

و مرة نُجرتُ مقعدا

و مرة سُبكتُ مصعدا

و مرة مكبرا للصوت

و كرر السؤال

أأنت

أأنت

"أأنت من سكان هذه المدينة"

لكنني أحببتها

ما أضيق الفراغ بين الحب و الإشفاق و الضغينة

أحببتُ أن أعيش بين لحمها و جلدها

لكي أحس نبضها العليل في عروقها الدفينة

أحببتُ أن أسوح جنب نهرها

إذ تلتوي بشرته الكابية الحزينة

بين الذراعين العليلتين, و الترائب الموهونة

و تنطفي على سرير دائه المقيم

مصابح الشطآن, و النجوم

و لم يكرر السؤال

نظرتُ, لم أجده

لا في بهرة الشمس, و لا في غسق الظلال

متى مضى؟

و هل سمعته حقيقة؟

و هل هو الخيال؟

صلاح عبد الصبور