صافرة النهاية
صديقى فجأة اختفى.. كان ذلك منذ سبع سنوات.. رغم حساسية عمله لم يدفعنى فضولى الصحفى أن أسأل عن مهام منصبه طيلة علاقتنا التى امتدت أكثر من عشر سنوات.. كلما التقينا أو تهاتفنا.. نخوض أكثر فى أمورى الأدبية والصحفية والأسرية.. وأيضا عن بعض أموره الإنسانية ..ولاشيء عن عمله.. آخر مرة التقينا.. فاجأنى :عارف أنا جاى منين ؟
ألمح فى لكنته التى اعتاد ان تكون خالية من دسم الانفعالات .. بعضا من الاضطراب.. سألته بقلق: منين؟
- من الاستاد!
- استاد أيه.. النهاردة مفيش ماتشات !
- اشتريت ربع كيلو لب.. ورحت هناك.. وقعدت فى المدرجات أتسلي!
وكأنها لحظة تمرد متوقعة على نظام وظيفى وحياتى أمضى ربع قرن أسير جبروت طغيانه.
-فيه أيه.. شكلك مش عاجبني!
- شعور غريب بيلازمنى من فترة.. وأنا ماشى فى الشارع.. بحس إن مش ده الشارع بتاعى.. وأنا فى البيت مع أولادى بحس إن أنا فى وادى وهم فى وادى.. لما بسمع أغنية بحس إن الأغانى دى مش لى.. لما بقعد اتفرج على المسلسلات بحس إنها معمولة لناس تانيين.. والإعلانات إما عن موبايلات ودقايق هتكسبها أو أكل.. برضه مش لى.. حتى الطعام.. فى البيت والعزومات والمطاعم والفنادق.. ما بلاقيش الأكل البسيط اللى كنت عايش عليه..
ويسألنى صديقي:
- مش هو دا الموت.. إنك تحس إن الدنيا دى مش بتاعتك !
ولماذا أتذكر صديقى الآن؟
لم يفارقنى طيفه لحظة واحدة منذ أن اختفى.. لكنها كلماته الأخيرة.. أنسحق بين حروفها.. وحتى سؤاله الأخير هو أيضا سؤالي: مش هو دا الموت.. إنك تحس إن الدنيا دى.. مش بتاعتك !ّ!
أين أنت ياصديقى ؟ لو ظهرت.. لو قدر لنا أن نلتقى مجددا ..لاصطحبتك إلى ستاد القاهرة، وصعدنا إلى أعلى المدرجات.. نتجاور.. نتطلع إلى فضاءات الملعب الخاوية.. صامتين إلا من قزقزة اللب ..فى انتظار.. صافرة النهاية !
رواية لن تصدر أبدا
فجرا استيقظ على غيرالعادة.. كان هذا منذ ثلاثة أشهر.. فوجئ بطرح قلمه يتدفق:
إليكِ.. كتابى هذا..
برهان آخر..
أنى أستمد برهان وجودى.. منك
لأعيد تصديره إليك.. إحساسا فائقا بالسعادة.. بالامتنان..
لأنى موجود !
....
يتأمل فى دهشة ما كتب : إهداء يستهل به رواية لم يكتبها بعد !
أصبح هذا حاله عبر الأشهر الثلاثة الأخيرة.. يستيقظ فى الرابعة فجرا ..لتسيل مشاعره على الأوراق ..رقرقة من الصدق لاعهد له بها من قبل..
وكأن صمت الفجر نهر طهر ينبع من الجنة.. لينساب داخله.. يطهره من كل قبح ..فلايبقى سوى الجمال.. فلايبقى سواها.. سما.. منها يكتب وإليها يكتب..
مؤخرا داهمه ضجيج المدينة التى يكابد فى مشقة كى يوليها ظهره.. كلٌ يصرخ.. يتصارع على ماهو له وما ليس له.. اختلس من كوة عزلته نظرة على ميادينها الوحشية المضببة بالصراخ.. بالكراهية.. تفاجئه بعبق ابتسامات.. شعربأنها ليست غريبة عليه..
يلاحقها بدهشة.. عرف من أى ثغر تنبع.. فلطالما حممته سما بضيها.. تنسل الابتسامات تحت جلد الوجوه القاسية خدرا.. لترتخى القبضات الغليظة.. يراها.. أنامل سما.. تجمع حصاد غواية ابتساماتها!
اليوم.. كالعادة.. استيقظ فجرا.. وما برح مشهد حضورها الغريب فى الميدان الذاكرة ..
يتأمل الورقة الأولى..
سما
رواية
يمزقها.. يمزق كل الأوراق !
طفلتى التى غابت
شاردا كنت وأنا أمر أمام متجره الصغير بشارع نبيل الوقاد فى طريقى إلى محطة المترو ..فإذا بندائه يجذبنى من صخب مدنى الداخلية: أستاذ محمد.. من فترة ما ظهرتش.. أنا قلقت عليك.. فيه حاجة !
-أهلا عم ابراهيم ..لا.. أبدا ..كنت مسافر
تذكرت أنى فى حاجة إلى زجاجة ماء ..أخبرته بما أريد.. وأنا أهم بمغادرة المتجر.. لاحقني: مش ناسى حاجة ؟
تطلعت إليه مستفسرا.. فزاد: الشكولاته.. بقالك فترة مش بتاخد شوكلاته.. جالى نوع فاخر و..
قاطعته عيناى بتوسل يتندى بدمعة ألم أن يكف ..فكف ..وكأنه قرأ مالم أبح به أبدا:الطفلة التى كانت تترقبنى ظهيرة كل يوم على ناصية الشارع الذى يحتضن مقر عملى ..لأودع فى كفها الصغير قطعة الشيكولاتة.. لم تعد تترقبنى!